المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ظاهرة العازف الملحن في الأغنية الليبية : الفنان حسين الزواوي أنموذجاً


زياد العيساوي
10/06/2008, 17h48
عرفت الجُملة اللحنيّة الليبيّة ، أسماء ملحنين كثيرين ، خطّوا حروفها الموسيقية بمداد وجدانياتهم على ظهور صفحات ( النوتة ) الموسيقية ، كما عرفت عازفين نفّذوها و امتهنوا التلحين بعد دراستهم ( الأكاديمية ) لأساليب و أصول العزف ، و تمكُّن كل واحد منهم من أداته الموسيقية ، فهناك عازفون كنَّا نراهم في ( فلاشات ) من ذوات اللونين الأبيض و الأسود ، ما برحت تحتفظ بها ذاكرة المشاهد ، بعد أنْ التقطت صورهم في أروقة الإذاعة المرئية ، و هم يعزفون على آلاتهم ، من خلال بعض الحفلات الغنائية المصوّرة ، سواء مع فرقة الإذاعة الليبية ، أو مع الأطقم الموسيقية العربية الزائرة لبلادنا ، التي كانت تُذاع من حين لآخر في المرئية المحلية ، منهم على سبيل المثال لا الحصر : " إبراهيم فهمي " و " حسين الزواوي " عازفا ( القانون ) و " ناصف محمود " عازف ( الناي ) و " خليفة الزليطني " عازف ( الساكسفون ) و " عبد الجليل خالد " عازف ( التشيلو ) أو ( الكونترباص ) كما أحسب ، و غير هؤلاء ثمة مجموعة أخرى من مُلحِّني اليوم و عازفي الأمس ، لكن من هذه الأسماء ، من عزف عن العزف ، و تحوَّل إلى مجال التلحين ، مع العلم بأنّه ، ليس كل عازف ، نستطيع أنْ نلقي عليه لقب المُلحِّن ، على الرغم من أنه ، قد يكون عازفاً ماهراَ و متمكناً من آلته ، لكون التلحين موهبة ربّانية ، يأتيها الله كأية موهبة أخرى ، لمن يشاء من عباده ، فلا يمكن تعليمها و لا تدريسها ، و لا أدلُ على ذلك ، من انتفاء وجود مدرسة مكتوب على واجهتها ، عبارة ( لتعليم التلحين ) على العكس تماماً من العزف ، الذي تشرع معاهد كثيرة أبوابها لتعليمه .
فثمة عددٌٌ كبيرٌ من الملحنين الكبار ، بالكاد يُجيدُ العزف على آلة واحدة ( العود ) بواسطتها ، يتمكَّن من ترجمة الجملة الموسيقية ، التي تتمخض في قريحته اللحنية ، ثم يوكل مهمة التوزيع الموسيقي إلى المختص بها ، و هذا ما درجت عليه غالبية الملحنين العرب الكبار ، وقت تعاملهم مع الفرقة الماسية مثلاً ؛ على أية حال ، فمن جهتي أرى ، أنّ مكمن الإبداع كله ، يكمن في التلحين ، ذلك أنّ ، المُلحِّن هو من يخلق العمل الغنائي من نطفة الشعر المكتوب ، فيحييه بعذب أنغامه بعدئذٍ ، لكونه في الأصل صاحبُ إحساسٍ راقٍ و رفيعٍ ، و مالكاً لوجدان بديع ، لذا فهو يتفاعل مع كل كلمة في النص الغنائي ، و يتصوّر لها البعد الدرامي ، و الخلفية الموسيقية اللازمة ، اللذين قد تحتاج إليهما ، حتى يصل معناها الظاهري و الباطني للمستمع ،كما أنه يحاول على الدوام أنْ يغوص في خبايا المفردة الغنائية ، التي يضعها المؤلف الغنائي ، كي يدرك المقاصد البلاغية ، التي في تصوره ، و يكفيه من ثم ، أنْ يسلّم لحنه مقسماً على آلة ( العود ) إلى قائد الفرقة ( المايسترو ) الذي يُشترطُ فيه بالأساس ، أن يكون عازفاً ماهراً يتقن التعامل مع الآلات الموسيقية جميعها ، على اختلاف وظائفها ، فيقوم بدوره بتوزيع مهام العزف على الآلات بلا تساوٍ ، لأنّ الضرورة الفنية ، هي من تقتضي ذلك و تحتمه ، حتى يظهر العمل كما ينبغي ، فأوقاتاً ترى بعض العازفين ، يأخذ قسطاً من الراحة أثناء تنفيذ العمل ، و ينشغل بتقليب ( النوتة الموسيقية ) التي قـُبالته ، استعداداً لجملة لحنية أخرى تأتي لاحقاً ، يؤدي على نغماتها المطرب وصلته ، و ريثما يأذن له القائد بالعزف ، لتكون آلته عضواً فعّالاً في الأغنية ، في الحين الذي يكون فيه العازفون الآخرون منهمكين بالعزف .
غير أنّ هذه الظاهرة الفنية ، التي لا أستطيعُ أن أحكم عليها حتى الآن بالصحيّة ، شهدت الحركة الغنائية في ( ليبيا ) نماذج كثيرة لها ، بعضها كان ناجحاً ، و بعضها الآخر كان متوسط المستوى ، تمثلت في تحوّل العازفين المذكورة أسماء بعضهم أنفاً ، إلى الانخراط في مجال التلحين ، فخسرتهم الساحة الفنية كعازفين مهرة ، و ذلك ربما لاكتسابهم الخبرة اللحنية ، بعد تجاربهم مع ملحنين أفذاذ لعدة سنوات من العزف معهم أو بالأحرى لهم ، فترسبت إثر ذلك في أعماقهم الأحاسيس بجمال الجُملة اللحنية المموسقة ، فاستأنسوا في أنفسهم الكفاءة و المقدرة على تأليف الجمل الموسيقية ، بدلاً من قراءتها و تنفيذها حال العزف ، ليكون التلحين في هذه الحالة مكتسباً لا طبيعياً ، و ذلك بالمران و الدربة .
و من بين هذه الأسماء ، هناك عازفٌ عارفٌ بأسرار آلته الوترية ( القانون ) بارعٌ ، و له باعٌ طويل في المجال الموسيقي ، و من القلة القليلة من هذه الفئة ، التي نستطيع أنْ نحسبها قد نجحت في هذا التصيير ( من العزف إلى التلحين ) .. له في محفوظات الإذاعة الليبية ، عديد المقطوعات و التقاسيم الموسيقية على آلته ، مصوَّرة و تذاع أحياناً ، في الاستراحات الموسيقية المُتخللة لفقرات البرنامج العام ، التي أراها تُقدّم من قِبل المنسقين ، من قبيل تعبئة الفراغ ، ليس إلا ، لأنها عادةً لا تكتمل عند إذاعتها ، في حين ، أنها يجب أنْ تبثُّ في فقرات و برامج أساسية ، ضمن خارطة البرامج المعتمدة ، ألا و هوّ الفنان العازف و الملحن " حسين الزواوي " .
أحتفظ لهذا الفنان بلحنين رائعين فقط في ذاكرتي ، جعلاني أضعه في مرتبة الملحنين الليبيين الكبار ، و ربما يكون له أعمالٌ أخريات ، غير أنني أجهلها أو أحسبها لغيره ، لكني على يقين تام ، بأنه هو من ألَّف ( النوتة ) الموسيقية ، لعمل عاطفي أخّاذ ، أدّته الفنانة العربية " سعاد توفيق " بعنوان ( يا عيني لمتى موالك يا عيني ) .
فهذه الأغنية تزخر بكم هائل من الجُمل الموسيقية ، التي تتنوع درجاتها الموسيقية من أول السلم الموسيقي إلى أعلاه ، و بأساليبها الغنائية ، كما أنّ لها مقدمة موسيقية غير عادية ، و فواصل للعزف المنفرد ، تطول بين كل مذهب و آخر يليه ، و لا ننسى سهولة الغناء الواضحة ، عند انتقال صوت هذه الفنانة من ( كوبليه ) إلى ثانٍ ، بإجادة و سلاسة قلّ نظيرها ، خصوصاً أنّ الفرقة الموسيقية العازفة وراء هذا الصوت ، هي بسيطة في آلاتها من حيث الكمِّ ، فلا تحتوي على الآلات الكهربائية ، التي يلجأ أكبر الملحنين إلى الاستعانة بها ، لتطعيم جُملهم اللحنية بنغماتها الاصطناعية الدرجات الصوتية ، و على الرغم من أنّ زمنَ هذه الأغنية ، لا يتعدى ثمانية دقائق و أربعاً و عشرين ثانية ، إلا أنّ الملحن " حسين الزواوي " ، نضّد و حشّد مقامات و مذاهب موسيقية شتّى ، في هذه الأغنية الناجحة بكل المقاييس الفنية ، التي لا ينتبه إليها البعض من المستمعين و المعنيين بهذا المجال الفني ، و تمر على مسامعه هكذا مرور الكرام ، و من دون أن يتفطّن إليها و يكتشف مواطن الجمال و الإبداع فيها ؛ فذائقتي الفنية ، تضع هذا العمل في قائمة الأغنيات و الألحان الليبية الخالدة ، التي لا تُحسَب على الصعيد المحلي و كفى ، بل حتى على الصعيد العربي إجمالاً ، لكونها تُنسبُ إلى الغناء العربي الصحي الحديث ، الخالص النقاء من أية مؤثرات موسيقية خارجية ، فأنت حين استماعك إلى هذه الأغنية ، سترى أو بالأحرى ستسمع ، كيف أنّ هذه المطربة العربية منسجمة مع الكلمة تمام الانسجام ، و منغمسة في اللحن بكل أحاسيسها و وجدانها الطربي ، و ذلك يبدو جلياً من خلال إظهارها لمكامن الجمال و التجلي في صوتها ، خصوصاً حين وصولها بالغناء إلى المقطع الذي تنشد فيه هذه الكلمات ، التي سطرها الشاعر الراحل " فضل المبروك " :


لمتى يعذبني موالك .. و في بحور الحيرة ايغربني


مرة م المرسى ايقربني .. و مرة في حيرة ايخليني


موالك لمتى يا عيني ..


و حتى ولوجها إلى مقطع لاحق تقول فيه :


تهوي و تغيري يا عين .. و ما بين الحلوين اتحيري


و تقولي ما اتبع غيري .. اوين نمشي معاك اتشقيني


غير لمتى انذوب يا قلبي .. و تاخذنا م العين ادروب


لا نعرف وين المحبوب .. و تضيع أحلامك و اسنيني


موالك لمتى يا عيني ..


و بحسب اللهجة الليبية الدارجة ، فإنّ كلمة ( موالك ) هنا ، يُقصدُ بها ( حكايتك ) و ليس الموال الغنائي ، و جاءت لعتاب العين ، حتى تكف عن البكاء و تكفكف دمعها بنفسها ، فهي صورة بلاغية للوم الذات .
عموماً فهي تظهر هذه الخصائص الصوتية ، بشكل عفوي ، و من دون تصنّع و بلا أي جهد يذكر من حبالها الصوتية ، ذلك أنّ الملحن ، عرف كيف يُطرّز قـُماشة اللحن على الحجم المناسب لصوتها ، حتى ألبسه الحلة القشيبة ، التي تليق بمظهره ، لكي تخرج هذه الدُّرر الصوتية من أعماق حنجرتها غصباً عنها ، فهو بلحنه هذا ، كمن يحفر بئراً ( أرتوازياً ) في عمق جوف الأرض ، لينفجر الماء الزلال الرقراق متدفقاً ، لا مانع يمنعه ، و لا يحجم جموحه ، كي يرتفع و يرتفع حتى يصل إلى بُغيته و منتهاه .
و ممَّا يُلاحظ استماعاً في هذه الأغنية ، أنّ الملحن " حسين الزواوي " أراد من خلالها أنْ يطلق العنان لآلته الموسيقية ، لتعبر عن أفكاره الموسيقية ، التي لم تسنح الفرصة ، لأجل أنْ يُقدّمها في معزوفات ، يضيق المجال لتنفيذها في ألحان لغيره من الملحنين ، فقد أعطى مجالاً واسعاً لآلته ، التي اشتهر بالعزف عليها ، لتنطلق في هذه الأغنية ، و تقول ما لديها نغماً ، في فضاء رحب ، و لتبرز مقدرة موسيقية متفتحة ، يتمتع بها ، فوظـّف ذلك اللحن الذي قدمه للعزف أيضاَ .
كما أنني ، أذكرُ لهذا الفنان عملاً ثانياً ، أحسست قبل أن اتأكد قطعاً من نسبه إليه ، بأنه له ، ذلك أنه ، يمضي وفق الأسلوب ، الذي قدّمه لنا في أغنيته الأولى ، بكل حيثياته ، و هنا لا أرمي من كلامي عنصر التكرار ، بل البصمة الفنية المتمثلة في التقديم و التوزيع الموسيقيين ، و كذلك وقت التسليم بالغناء لمؤدية العمل ، الفنانة السورية " سعاد توفيق " تلك الأغنية التي تغنت بها في العقد الأسبق ، و كانت بعنوان ( يا لائمي ) فهي الأخرى ، لا تتعدد فيها الآلات الموسيقية المنفذة لها ، إلا ما لزم منها فقط ( التخت الشرقي الأصيل ) لأداء الغناء العربي ، و مع ذلك ، قدر أنْ يجعل عمله ناجحاَ ، بواسطة جُملٍ لحنية ، عرفت بنفسي بأنها لا يمكن أن تكون لغيره ، لكونها تحتفظ بنكهة و طعم العمل الأول ، و تنبض فيها أوتار قانونه ، و تشع منها روحه الطربية .


بقلم : زياد العيساوي _ ليبيا


بنغازي في : 19 / 3 / 2008


Ziad_z_73@yahoo.com