المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : النهوض بالتربية الموسيقية


عبدالقهار
29/05/2008, 21h35
النهوض بالتربية الموسيقية
في العالم العربي

عبد القهار الحجاري – المغرب
نشر ب"جريدة الفنون"عدد79 آب/ أغسطس 2007

• أثيرت قضية النهوض بالتربية الموسيقية في العالم العربي، في عدة مناسبات نظرا للدور الهام الذي يضطلع به النغم الرفيع في الإرتقاء بالذوق الجمالي العام ... وفي سياق هذا الموضوع تأتي هذه المساهمة لمقاربة مفاهيم وطرائق فعالة في التربية الموسيقية الحديثة، في تفاعل مع خصوصية الموسيقى العربية.
تبرز أهمية التربية الموسيقية، من خلال دورها كممارسة تربوية، تعتمد على توظيف الفن الموسيقي بفعالية في تطوير قدرات الإنسان المعرفية والحسية – الحركية والوجدانية، والرقي بذائقته الجمالية. مما يؤثر إيجابيا على شخصيته كفرد وكعضو داخل مجتمع مفتوح ومعرض للتغير الدائم.
ولا ينتظر من كل متعلم يتلقى مادة التربية الموسيقية، أن يصبح بالضرورة موسيقيا محترفا، فهي مادة تربوية أساسا، تساهم بشكل فعال، إلى جانب المواد الدراسية الأخرى في بناء شخصية المتعلم، عبر تحرير طاقاته وتلبية حاجاته الطبيعية الكامنة التي تحتمها سيرورة النمو في مراحل الطفولة.
تضم الموسيقى التربوية عدة ألوان من النغم الملائم لطبيعة المراحل العمرية للطفولة من حيث تركيبها الإيقاعي والمقامي الخاضع لمبدأ التدرج من العام إلى الخاص، من البسيط إلى المركب ومن السهل إلى الصعب ... ويحكم النغم مفهومان أساسيان : المسافة Intervalle والنبضان Pulsation يحس بها الطفل في مراحل مبكرة، وقد تبين أن الجنين وهو في رحم أمه، يستشعر دقات قلبها، كما يسمع مختلف الأصوات المنغمة وغيرها داخل العضوية التي يتشكل في أتونها، ويكون أول احتكاكه بالعالم الخارجي عن طريق السمع؛ إذ تتناهى إليه الأصوات التي تصدرها الإجسام من حوله، ولعل هذا ما يفسر توقف الوليد الجديد عن البكاء لمجرد أن تضمه الأم إلى صدرها، حيث يكون قريبا من قلبها، وبإمكانه الإستماع من جديد إلى نبضاته التي يألفها.
ومن ألوان الموسيقى التربوية: الموسيقى الآلية المكتوبة للأطفال، الموسيقى المصاحبة للتعبير الجسدي والأناشيد والألعاب الموسيقية والإيقاعية المتعددة والموسيقى التراثية التربوية ... كما تتضمن الأغنية التربوية التي يكون الغناء فيها أساسيا، وكذا الغناء الكورالي التربوي، وأغنية الطفل طعمل غنائي مكتوب خصيصا للطفولة، باعتبارها مرحلة عمرية نمائية ذات خصائص وحاجات نفسية خاصة، سواء أدي هذا العمل من طرف الأطفال لوحدهم أو بمعية راشدين ... وتوفر التربية الموسيقية إمكانية الإستفادة من جميع الإيجابيات التربوية للموسيقى. وقد بلغ علم المنهجية في التربية الموسيقية، شأوا عظيما، إذ أصبح يعتمد على الطرق الفعالة Méthodes activeses على غرار المواد التربوية الأخرى، في مقابل الطرق التقليدية القائمة على الترديد والحفظ وشحن الذاكرة ... فالطفل عندما يحضر حصة من حصص التربية الموسيقية، يكون محملا باستعدادات هامة للتعلم، لكنه يأتي أيضا بالحاجة إلى إشباع رغبته العارمة في اللعب، ومن ثم تكون القراءة والتنغيم الجافة، وصرامة التقيد بعزف نوطات المدونات عزفا صحيحا ودقيقا بمثابة مصدر ضجر بالنسبة له. لأنها لا تسمح له بإشباع تلك الرغبة، بينما تفرض طبيعة التعليم الموسيقي احترام قواعد وتقنيات التمرن على المهارة الموسيقية، ةإلا تعذر تحقيق المردودية المرجوة. ولذلك، أصبحت التربية الموسيقية الحديثة توظف اللعب في طرائق التعلم وتستهدف مختلف الجوانب الوجدانية والحسية – الحركية والمعرفية. وتراعي إدماج التعلمات، في سيرورة النمو بحيث تخصص لكل فترة نمو ما يناسبها من المفاهيم واعتماد ترييض الحواس والأعضاء الحركية، وتنويع الألعاب والأنشطة فيحس الأطفال بمتعة الإنصهار الجماعي بواسطة فن رفيع يسمح لهم بتأكيد الذات، ويستشعرون ضرورة الإلتزام بالدقة والمسؤولية حين ينخرطون في عزف جماعي أو غناء كورالي.
وتجدر الإشارة إلى أهم الطرق الفعالة في هذا المجال والتي تعرف اليوم انتشارا واسعا في العالم في شعب التربية الموسيقية وأنشطتها في المعاهد والمدارس والجمعيات المعنية بالموسيقى التربوية. منها طريقة كارل أورف C.ORFF، وتشتغل على تربية موسيقية عامة تقوم على الغناء الجماعي لألحان شعبية وأغاني الأطفال والعزف في مجموعات على آلات بسيطة لقوالب تنحو أن تكون مادة للعزف والأداء الكورالي، وإبراز الحركة الإيقاعية واللحنية.
طريقة كوداليKodaly وتعتمد على الصوت البشري والتمارين الصوتية على ألحان شعبية أو أغاني الأطفال، وتمكن هذه الطريقة من تعليم الأطفال بفعالية أكثر معنى الإيقاع والتنغيم الصحيح اعتمادا على الحنجرة.
طريقة مارتينوMARTINOT وترتكز على الإيقاع الداخلي للموسيقى. ولها علاقة بمنهجية تدريس مادة الصولفيج، وطريقة جاك دالكروزJ.DALKROZE التي تقوم على الحركة اللحنية والإيقاعية والإرتجال، وطريقة سوزوكي SUZUKI الذي يرى أن تعليم الموسيقى يشبه تعلم اللغة الأم.ابتداء من السن الثالثة يبدأ الأطفال في تعلم العزف على الكمان، والفيولونسيل والبيانو والناي المستعرض وفقا لطريقته، وهناك طريقة بييرفان هاوP.V.HAWE وهي طريقة تركيبية، توفق بين عدة طرائق منها : أورف وكودالي.
كل موسيقى تربوية لها حمولتها القيمية، تثوي في بنية النص الذي يقوم عليه العمل الموسيقي. وتستضمرها اللغة، باعتبارها وعاء للفكر. ويتحدد اختلافها تبعا لاختلاف فلسفة كل مجتمع ونظمه الفكرية والعقدية والثقافية المتحكمة في تشكيل كيانه النغمي عبر التاريخ.
وترتبط التربية الموسيقية الحديثة بثقافة المجتمع، وخصوصيته النغمية التي تمثل أحد مقومات هويته. فكل عمل موسيقي موجه إلى الناشئة، يراد له أن يكون تربويا، لابد أن تستدمج بنيته عناصر الثقافة الموسيقية النابعة من المجتمع. وتزخر البلاد العربية بألوان زاهية من النغم والإيقاع، وصنوف غنية من الموسيقى التقليدية والتراثية والشعبية والعصرية، تمثل مادة خصبة وغزيرة لدروس التربية الموسيقية، ولعملية الإستماع اليومية، خاصة في مراحل الإستئناس بربع البعد. وهنا لابد من توضيح الموقف من اعتماد السيكاه أو استبعادها بالنسبة للموسيقى التربوية، باعتبارها موجهة إلى مرحلة عمرية ذات خصوصيات نمائية وهي مرحلة الطفولة. فمبدأ التدرج في بناء المفهوم الموسيقى لدى الطفل، يستلزم الإقتصار على السلالم الكبيرة والصغيرة، بدء بالسلم الطبيعي "دو" الكبير وسلم "لا" الصغير. والتدرج في إدخال التحولات والمقامات العربية الخالية من ربع البعد. واستبعاد السيكاه - مؤقتا - إلى حين اكتساب الطفل لأذن موسيقية، تؤهله لإكتشاف الخصائص النغمية لربع البعد وثلاثة أرباعه بشكل تدريجي، اعتمادا على الإستئناس بعملية الإستماع التي توفرها البيئة الموسيقية العربية. وتشكل مرحلة بداية العمليات الصورية – التجريدية التي تنطلق غالبا في السن الثانية عشر، المرحلة الأنسب لبداية تقبل التراكيب النغمية والإيقاعية المعقدة، والخصائص النغمية للسيكاه التي يتشربها الإنسان العربي منذ طفولته المبكرة، لكنه لا يستوعبها من أول وهلة. ولا يبني مفهومها دفعة واحدة، بل بسيرورة تدريجية.
ولذلك، لزم أن يكون اعتماد تلك التراكيب المعقدة، عمليا مسبوقا بتوظيف المقامات المركبة من الأبعاد وأنصافها فقط، انسجاما مع مبدأ التدرج في بناء التعلمات والمفاهيم الموسيقية.
ورغم ثراء الموسيقى العربية وعراقة تقاليدها وجذورها الضاربة في التاريخ، وريادتها في عصور سابقة ... إلا أن التربية الموسيقية والجمالية عموما، لازالت لم تترسخ بعد لدى الإنسان العربي كاختيار واع وثابت. فهي لا تلقى الإهتمام الكافي داخل الأسرة، ولا تعدو أن تكون مجرد مادة تكميلية، تنحصر في التعليم الإبتدائي في الأناشيد، وبعض العروض الغنائية والموسيقية المناسباتية، في أغلب البلدان العربية، ولا تزال شعب التربية الموسيقية عندنا، في التعليم الإعدادي والثانوي وحتى العالي بعيدة عن تحقيق غاياتها كما ونوعا بالنظر إلى مثيلتها في الغرب، فهي مادة دراسية تبدو "غريبة" و "دخيلة" في ظل تفاقم آفة الأمية - وفي زمن أصبح فيه الرهان الأول على العلم والمعرفة- مما يسمح بانتشار ذهنيات التحريم، بالرغم من الرصيد الزاخر للموسيقى العربية الرفيعة التي تسمو عن كل إسفاف.
إن الموسيقى التي هي جواهر روحانية بنظر إخوان الصفا، وأعلى من كل حكمة وفلسفة برأي بتهوفن ... يمثل ازدهارها أحد أهم مظاهر رقي المجتمع وتقدمه، ولهذا ترتبط التربية الموسيقية أيضا بما راكمته علوم الموسيقى وعلوم التربية على حد سواء، من إنجازات علمية غير مسبوقة على المستويين المعرفي والبيداغوجي، تخص ميادين التنظير والتقعيد والتنظيم المنهجي الدقيق لتقنيات العزف على مختلف الآلات، والغناء بشتى أنواعه. وبرزت علوم مختصة بمختلف فروع الموسيقى كتآلف الأنغام والطباق اللحني والتأليف والقوالب الموسيقية وتاريخ الموسيقى ... ومنهجيات تدريس مختلف المواد الموسيقية في كافة التخصصات بالمعاهد والمدارس العليا والجامعات ... وكذا في التربية الموسيقية وطرائقها البيداغوجية ...
وهنا لا يمكن الحديث عن التربية الموسيقية، من دون الأخذ بمعطيات علوم الموسيقى لما تزخر به من إمكانيات هائلة، في منتهى الدقة والتنظيم والثراء على أساس علمي، وما حققته من إنجازات علمية، يستحيل القفز عليها، مثلما لا يمكن الحديث عن التربية اليوم، من دون الإستفادة من منجزات علوم التربية التي تتقاطع مع عدة علوم سواء من العلوم الحقة أو من العلوم الإنسانية، وخاصة منها ما راكمه علم النفس التربوي والفزيولوجيا وعلم الأعصاب ... وما تحقق بفضلها من نتائج مذهلة جعلت التربية تنتقل إلى مصاف العلم انطلاقا من السلوكية إلى الكفايات ونظرية الذكاءات المتعددة التي أزاحت مفهوم الذكاء التقليدي، ويختلف كل فرد عن الآخر في نوعية الذكاءات التي يتمتع بها وتميزه عن غيره.
وليست قضية النهوض بالتربية الموسيقية في العالم العربي ترفا فكريا أو انشغالا مثقفيا ضيقا، أو مجرد أحاديث لتزجية الفراغ، بل هي قضية حقيقية وشأن ثقافي هام، ودينامية تربوية تسهم في تقدم المجتمع، ولأجل النهوض بها في عالمنا العربي، أقترح ما يلي :
• إحداث شعبة ميتودولوجيا التربية الموسيقية بالتعليم العالي، على مستوى الجامعات، وخاصة بكليات التربية وبالمعاهد الوطنية، لإمداد مراكز تكوين أساتذة التربية الموسيقية بمكونين ذوي كفايات عالية في علوم الموسيقى وعلوم التربية.
• إقرار مبدأ الإستفادة من الطرائق الفعالة في التعليم الموسيقي والتربية الموسيقية بالمعاهد الموسيقية، وبالتعليم العام وفي العمل الجمعوي أيضا.
• برمجة مادة التربية الموسيقية في التعليم الإبتدائي، وتحري الدقة العلمية في وضع مناهجها ومقرراتها، وتوفير الوسائل اللازمة لها.
• إعتماد التكوين المستمر لأطر تدريس التربية الموسيقية.
• وضع خطة إعلامية تتوخى النهوض بالتربية الموسيقية في الإعلام السمعي البصري.
• تأسيس جمعيات للتربية الموسيقية ودعم العمل الجمعوي الفاعل في هذا المجال وخلق شراكات بين المؤسسات التعليمية والمعاهد الموسيقية وجمعيات المجتمع المدني لتبادل الخبرات وتطوير الكفايات والقيام بنشاطات مشتركة.