المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الواقعية والتنظير في فلسفة ابن رشد الموسيقية


abidoune
24/03/2008, 13h46
الواقعية والتنظير في فلسفة ابن رشد الموسيقية
بقلم زينة العظمة

* في سنة 1125 اندفع ألفونس الأول ملك أرجون بجيوشه جنوباً بهدف الاستيلاء على غرناطة، ومع أنه لم يحقق ما كان يرمي اليه فقد أنزل بالمسلمين هزيمة نكراء قرب مدينة أليسانة، ألقيت مسئولية هذه الهزيمة على نصارى الأندلس فأصدر قاضي قرطبة فتوى بإجلاء النصارى الى مراكش، كان الاستياء من حكم المرابطين قد بدأ بالانتشار ليس في المدن المسيحية فحسب انما شمل المدن الاسلامية التي بات أهلها يتذمرون من الفوضى والعطالة التي تسببت ضراوة جيوش البربر بها، ضمن هذه الظروف وبعد أن أصدر قاضي قرطبة فتوى اجلاء النصارى بسنة واحدة أي في سنة ،1926 ولد لقاضينا حفيده الأول أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد.
* في سنة 1143 توفي علي بن تاشفين خليفة المرابطين المستضعف فقام من بعده ابنه تاشفين وأمضى حياته في مقاومات مخفقة لتيار الموحدين، وفي سنة 1144 حوصر الخليفة تاشفين في تلمسان عاملاً كاملاً، فما كان منه إلا أن أخذ فرسه ومضى بمحاذاة البحر إلى وهران هرباً منها إلى الأندلس لكنه سقط عن فرسه في الطريق من علو شاهق الى البحر ومات فيما كانت جيوش الموحدين قد احتلت المدينة وبدأت انتشارها في كافة أرجاء الأندلس لتؤسس أكبر دولة مغربية إسلامية حتى ذلك الحين، كان ابن رشد قد بلغ حينها من العمر ستة عشر أو سبعة عشر عاماً عاش خلالها في كنف أسرة من أعرق الأسر الأندلسية وأعلاها شأوا في الفقه والسياسة والقضاء.
* في سنة 1148 توغل ألفونس السابع ملك قشتالة في الأندلس حتى انتهى الى قرطبة حيث تصدى له الموحدون، وكان خليفة الموحدين عبدالمؤمن بن علي قد قضى على المقاومة البربرية وأرغم أتباع المرابطين على التراجع حتى جزر البليار كما حرر الساحل الافريقي من سلطان النورمانديين الصقليين، وكان له أن ينتقل إلى الأندلس ليكمل فتوحه فيها لولا ان المنية وافته فمات سنة 1163 ليترك عهدة دولته بيد ابنه أبي يعقوب يوسف، شغل ابن رشد في حكم الخليفة الجديد هذا مناصب مهمة، ففي عام 1169 عينه الخليفة قاض لاشبيلية، ثم عاد بعد عامين الى قرطبة فتولى منصب قاضي القضاة، وبعد ذلك بعشرين عاما أصبح طبيب الخليفة الخاص، ولما توفي الخليفة تولى ابنه المنصور الخلافة من بعده، أحسن هذا معاملة ابن رشد شأنه في ذلك شأن أبيه، لكن جماعة من الفقهاء سرعان ما وشت للمنصور وأثارت حفيظته على ابن رشد حتى أمر بإحراق كتبه وحظر الاشتغال بالفلسفة والعلوم ما عدا الطب وعلم النجوم والحساب، كما أمر المنصور بنقل ابن رشد الى مدينة أليسانة اليهودية وبتجريده من منصبه في البلاط، لم تدم محنة ابن رشد طويلاً إذا ما لبث الخليفة أن رضي عنه وجنح هو نفسه الى تعلم الفلسفة، لكن ابن رشد ما لبث أن توفي في مراكش بعد سنوات قليلة وذلك في سنة 1198.
اهتم ابن رشد بالموسيقى كفرع من فروع الفلسفة، فقد كان يرى: »ان غرس الفضائل في النفوس ضرورة أكيدة، وان السبيل الى ذلك وسيلتان هما الرياضة والموسيقى، وإذا كانت الرياضة عنده تعني بغرس الفضائل الجسدية ويخشن بها عود الانسان، فإن الموسيقى تعنى بتثقيف النفس وتمريسها على الفضائل الخلقية وتلطف من خشونة الطبع ولذلك فهو يصر على عدم الاسراف في طلبها لأن الخروج عن قاعدة الاعتدال في الاستماع الى الموسيقى يؤدي لا محالة الى نقيض ما يراد بها« (ابن عبدالجليل ص 43).
ورأى ابن رشد ان الموسيقى القادرة على القيام بهذه المهمة موسيقى غنائية لكلماتها مضمون أخلاقي، فالموسيقى بنظره هي »الأقاويل الحكيمة ذات اللحن« (ابن عبد الجليل ص 43).
ورغم اصراره على حكمة المضمون فهو لا يؤثر الأسلوب الخطابي في الشعر المغنى كما انه »يرفض أغاني الشكوى والرعب، وكل تقليد حرفي للأشياء التي لا تعقل ولا تشرف الانسان كصيحات الحيوانات وأصوات الطبيعة وذلك لسوء تأثيرها في المستمع وفي رأيه ان الهدف الأساسي للموسيقى أخلاقي محض وهو حث المرء على الشجاعة والاعتدال« (ابن عبدالجليل ص 125).
ومن الملفت للانتباه هنا ان دور الموسيقى في خلق التوازن والاعتدال مفهوم صيني قديم يبدو غائبا عن الفكر العربي الاسلامي حتى ذلك الحين، وأن مفهوم استخدام الموسيقى لتحريض الشجاعة في النفس مفهوم أفلاطوني كان ابن باجة الفيلسوف الموسيقار قد تبناه تأثرا بفلاسفة اليونان هو الذي وصف بأنه »أكثر فلاسفة الاسلام اطمئنانا الى النظريات اليونانية والى التوفيق بينها وبين ما كان عليه أصحاب صناعة الغناء في المغرب والأندلس (ابن عبد الجليل ص 44).
رأى ابن رشد ان الفن مرتبط بما يقدمه الفنان للمساهمة في تقويم المجتمع وتشذيب أخلاقياته، فأخذ على موسيقيي عصره إهمالهم لهذه المهمة وإيثارهم للأغاني الباكية النائحة التي تثير الاحباط والكسل، لكن المصادر تشير الى ان الموسيقى الأندلسية في تلك الحقبة كانت على قدر كبير من التحفظ وأن السلالم المستخدمة مثلاً كانت تخلو من أرباع الأبعاد التي تضفي على المقامات صبغة عاطفية حزينة، وهي بذلك تطابق السلالم الفيثاغورية التي رأى فلاسفة اليونان انها مناسبة لتهذيب النفس وتشذيب الأخلاق، يدفعنا هذا الى التساؤل عن مدى صلة مفاهيم ابن رشد الموسيقية بواقع الموسيقى الأندلسية في زمانه وعن مدى مصداقية احتجاجاته على موسيقى عصره خاصة ان الموسيقى والفكر الأندلسي بلغت في عهد الخليفتين الموحدين أبي يعقوب يوسف ويعقوب المنصور والدين عمل ابن رشد أكثر حياته في خلافتهما، وشهدت الموسيقى في عهدهما تطورا لم يسبق له نظير، فنحن نعلم أن الموسيقى المغربية ـ الأندلسية ازدهرت في عهد المرابطين والموحدين ازدهاراً كبيراً وبلغت من التقدم مبلغاً عظيماً إذ أنجبت من أعلام الموسيقى من بلغت شهرتهم أقاصي البلاد وشهدت السنين على خلودهم وموهبتهم كالأعمى التطيلي، ويحيى ابن بقي، وأبي بكر الأبيض، والفيلسوف الموسيقار أبي بكر بن باجة المعروف بابن الصائغ الذي اجتهد وأبدع في مجالات التنظير والتلحين والأداء والتلقين الموسيقي. (ابن عبدالجليل ص 32)، وكانت للموسيقيين والموسيقيات في زمن المرابطين والموحدين مكانة اجتماعية مرموقة إذ جمع بعضهم بين ممارسة الموسيقى ومناصب وزارية مثل ابن باجة، وتنافس الأمراء على كسبهم أو حتى الاقتران بهم كالمغنية اتفاق التي تنافس على الزواج منها السلطان الملك الصالح مع ثلاثة من ملوك ذلك العهد (البقلي ص 45) وانتشرت الموسيقى انتشارا كبيرا وبيعت آلاتها بوفرة في المتاجر، ويروى ان طلبة المهدي بن تومرت عندما قاموا بتكسير الآلات الموسيقية في متاجر فاس فإن الأمير علي بن يوسف أمر بعزل قاضي فاس لأنه لم يدن طلبة المهدي على فعلهم بتلك الآلات، وكان أمراء الدولة المرابطة المقيمين في الأندلس يستقبلون الأدباء والشعراء والموسيقيين في قصورهم حتى قيل »انهم زهدوا فيما أبدعه الفكر الأندلسي في مجال العلوم الدينية بينما كانوا أكثر اعجاباً بمظاهر الثقافة الأندلسية الأخرى« (ابن عبد الجليل ص 3).
أما في ظل الدولة الموحدة فقد اتخذت الموسيقى الأندلسية اتجاهات جديدة بفعل التأثيرات الاجتماعية لتوحيد المغرب وأهمها ثلاثة:
1- طغيان الموسيقى البربرية بسبب تكاثر البربر في تونس. 2- انتشار موسيقى عرب بن هلال واحتكاكها بالموسيقى البربرية. 3- ظهور الموشحات والأزجال الأندلسية التي حملها إلى تونس أمية بن عبد العزيز بن أبي السلط الاشبيلي (الكعاك)، وبذلك دخلت الى الموسيقى المغربية عناصر شرقية جديدة من مقامات لحنية وموازين وآلات وترية ونقرية وهوائية، كما ظهرت فنون غنائية جديدة كالتوشيح الذي احتضنته قصور الخلفاء ومجالس الأمراء والذي تطور عنه طرب الملحنون ثم تلاه ابتكار الزجل وفن التغني بالمولد النبوي أو ما يسمى بالمولودية.
ورغم ما ونجده من انتشار للموسيقى والسماع في أندلس الموحدين والمرابطين، لا يغيب عنا ان تلك الموسيقى كانت تحت سيطرة السلطة الحاكمة وانها بالتالي خضعت لرقابة صارمة ليس على الصعيد الديني والاخلاقي فحسب انما كذلك على الصعيد الفني والجمالي اذ »اهتمت الأوساط العلمية في كل من الاندلس والمغرب بالموسيقى كفرع من فروع الفلسفة.
وحرص الامراء على ان تكون الموسيقى التي يحتضنونها جديرة باقرار واحترام اشد العلماء والمنظرين صرامة في هذا الشأن الا اولئك الذين اعتبروا السماع من اصله ضربا مذموما من اللهو. يقول الاستاذ الباحث عبدالعزيز بن عبدالجليل في كتابه عن تاريخ الموسيقى المغربية: »لم يكن لينقص من اهتمام المرابطين بالفن الموسيقي ما عرف به هؤلاء من سلوك مناهج الجد وركوب سبل التوقر. فاذا قيل ان ابن ارقم الوزير مدح الامير المرابط عبدالله بن مزدلي بقوله:
اذا الملوك نيام في مضاجعهم مستحسنون بهاء الحلى والحلل اذا صرير المداري هزهم طربا ألهاك عنه صرير البيض والاسل في الخيل والخافقات لي شغل ليس الصبابة والصهباء من شغلي
اذا قيل دلك فالجواب ان الشاعر لم ينف حب ممدوحه للانشاد ولكنه وصفه بالنفور من التطريب الذي يقعد بالهم ويميت النفوس، فهو في حالة تأهب لمحاربة الروم (الاسبان) والموقف ادعى الى موسيقى تحرك تلك الهمم الخائرة وتحيي تلك النفوس الميتة.
وان دل كل ما سبقق على شيء فإنما يدل على وجود وعي شبه عام في الاوساط المتحكمة بالموسيقى، او لنقل الممولة لها، للدور الوظيفي للموسيقى كفن يدم فيه جانبه الترفيهي او حتى العاطفي ويحمد منه دوره الاخلاقي. كما يدل ما سبق على ان الموسيقى السائدة في اندلس الحقبة المذكورة والتي عاش ابن رشد في كنفها كانت في غالبيتها موسيقى يوجهها وعي مموليها ومن كان له عليهم اثر من الفلاسفة والعلماء والفقهاء، لا ذوق مستهلكيها وحده. استنادا الى كل ما سبق بوسعنا القول ان نظريات ابن رشد في الموسيقى، على اهميتها، لا تصلح لأن تكون مرجعا ودليلا لأحوال الموسيقى المغربية في حقبته. وان مرجعيتها مرجعية فلسفية وليست مرجعية تاريخية موسيقية فهي استمرارية لنظرة وظيفية الى الموسيقى موغلة في القدم طرحها كونفوشيوس منذ القرن السادس قبل الميلاد حين اعتبر ان مهمة الموسيقى تهذيب النفس وتحقيق توازنها. كما طرحها الفلاسفة اليونان اذ رأى افلاطون ان للفنون الادبية والبصرية والموسيقية دورا اساسيا في تكوين الشخصية ويجب بالتالي استخدامها في التعليم والتربية، واكد على ان الموسيقى المطلوبة هي موسيقى »متحفظة، صاحية، ونشيطة«.
اعتبر افلاطون الموسيقى وسيلة لتحقيق التطهير الروحي catharsis والذي يهدف الى تحرير النفس من ارتباطها بالجسد Metting p 87) ) ومفهوم الكثارسس هذا مبني على الفكر الفيثاغوري. فقد مارست المدرسة الفيثاغورسية التطهير الجسدي من خلال الطب والتطهير الروحي من خلال الموسيقى.
كل هذه المفاهيم واضحة الصلة بآراء ابن رشد في الموسيقى وتؤكد لنا ان منظوره اذ نظر في الموسيقى كان منظورا انسانيا عاما وليس منظورا محليا مرتبطا بزمانه ومكانه.