المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مذكرات أم كلثوم


MUNIR MUNIRG
17/02/2008, 11h17
مذكرات أم كلثوم
قبل أن تقرأ منذ حوالى 44 عاما نجح «مصطفى وعلى أمين» فى إقناع سيدة الغناء العربى بكتابة مذكراتها عن سنوات البدايات والمعاناة والكفاح. واستجابت أم كلثوم وكتبت مذكراتها التى نشرت على عدة أسابيع فى مجلة «هى» التى كانت تصدر عن مؤسسة أخبار اليوم. ومضت سنوات، ونسى الناس أمر هذه المذكرات، حتى أعاد اكتشافها الكاتب الصحفى الكبير الأستاذ «محمود عوض» ونشرها فى كتابه المهم والمتميز والرائع «أم كلثوم التى لايعرفها أحد»، الذى حطم أرقام التوزيع ولايزال نجاحه مبهرا، وصدرت منه خمس طبعات نفدت تماما. ومنذ 33 عاما رحلت أم كلثوم وغابت، لكن رحيلها وغيابها يؤكد ويكثف حضورها، فلا يزال صوتها هو الأبقى والأنقى والأجمل والأخلد، ولاتزال أغنياتها تتربع على عرش الغناء العربى. أم كلثوم ظاهرة غنائية وسياسية ووطنية يندر أن تتكرر ومذكراتها درس مهم. وفى زمن الاستسهال والغناء بالجسد والبلح والواوا.. تبقى أم كلثوم ظاهرة استثنائية فى حياة العرب. مذكرات «الست» جديرة بالقراءة والفهم! «... رشاد»

كانت القاهرة عندما بدأنا نستقر فيها سنة 1926 كالمريخ، كل شىء فيها نكتشفه لأول مرة، كل شىء فيها مختلف عما رأيناه من قبل، البيوت مختلفة. الشوارع مختلفة، السهرات مختلفة، الناس مختلفون والجمهور مختلف. فى الريف كان صاحب الفرح يأتى إلينا مباشرة - إلى أبى - للاتفاق على الغناء. ولكن فى القاهرة لابد من وجود متعهد الحفلات.
إن المتعهد هو الذى يتفق مع الجمهور من ناحية، ثم هو الذى يتفق مع المطرب أو المطربة من ناحية أخرى.. ويعد له مكان الغناء، ويتولى الدعاية له بين الجمهور. وفى البداية عانينا كثيرا من التعامل مع متعهدى الحفلات كان أبى طيب القلب خالص النية فى تعامله، وكان العمل فى القاهرة يتطلب صفات مختلفة ويظهر أن منظر أبى كرجل ريفى.. ومنظرى كفتاة صغيرة.. بالعقال والبالطو.. يظهر أن هذا كان يغرى متعهدى الحفلات أحيانا بالضحك علينا. فى البداية مثلا كان صديق أحمد متعهد الحفلات يحضر فى الصباح للاتفاق مع أبى على أجر الغناء، الاتفاق يقضى بأن يدفع لى سبعة جنيهات. وعندما نذهب إلى صالة الغناء فى المساء.. فإن صديق أحمد كان يدخلنا إلى المسرح لنجلس خلف الستارة نستعد ويبدأ صديق أحمد فى الشكوى لأبى قائلا: يا خسارة مفيش جمهور! شوف الصالة فاضية إزاى؟!
وعندما يتطلع أبى إلى الصالة من خلف الستار.. يجد أن الصالة خالية من الجمهور فعلا لأن صديق أحمد تعمد أن يحضرنا قبل موعد الجمهور بساعة أو بساعتين! والحل؟! كان الحل ينتهى دائما بنجاح المتعهد فى تخفيض الأجر المتفق عليه من قبل فى الصباح فبدلا من سبعة جنيهات يصبح الأجر خمسة أو أربعة جنيهات! ويوافق أبى بحسن نية، بينما المتعهد يتمتم بصوت مسموع: ربنا يسهل بقى وما أخسرشى أكثر من كده!! وعندما نبدأ فى الغناء بعد ساعة أو ساعتين.. عندما يفتح الستار.. نفاجأ بأن الصالة قد أصبحت مزدحمة بالجمهور الذى لا يجد مكانا! ونبحث عن المتعهد فنجده.. فص ملح وداب!!

على أن هذه المشكلة بدأت تختفى عندما بدأ أبى شيئا فشيئا يكتسب الخبرة فى التعامل مع متعهدى الحفلات بحيث لا ننخدع منهم بهذه السهولة. بدأت المشاكل مع المتعهدين تختفى، لتحل محلها مشاكل أخرى.. مع الجمهور نفسه! كان الجمهور فى البداية لا يأتى لكى يسمع غناء، إنه يأتى أولا لكى يسلى نفسه، يسهر وينبسط ويفرفش.. ويسكر!
وإذا سمع مطربا.. فالغناء لابد أن يتماشى مع مقتضيات السهرة.. يعنى لزوم الفرفشة! لهذا السبب فإن موجة الطقاطيق الخفيفة - الخليعة غالبا - هى التى كانت رائجة فى تلك الأيام! لم يكن هذا لوننا كنت ما أزال أغنى المدائح النبوية.. والقصائد.. وأصمم على التمسك بهما. ولكن هذا التصميم خلق لى مشاكل كثيرة فى القاهرة. أذكر أننى كنت فى إحدى الليالى - سنة 1926 - أغنى فى كازينو البوسفور. إن كازينو البوسفور كان يقع فى ميدان المحطة - ميدان باب الحديد حاليا - بالقاهرة، وكان رسم الدخول للسهر فى الكازينو خمسة قروش.
فى تلك الليلة بدأت أغنى - كالعادة - فى الساعة العاشرة مساء. ولم تكن هناك آلات تصاحبنى فى الغناء كان أفراد التخت هم أربعة منهم أبى وأخى خالد، وكنت ما أزال أرتدى العقال والبالطو الأزرق.. وأغنى المدائح النبوية والقصائد. وبدأت فى تلك الليلة أغنى: سبحان من أرسله رحمة لكل من يسمع أو يبصر. وبعد قليل بدأ أفراد الجمهور يطلبون منى أن أتوقف عن الغناء وأن أغنى لهم الأغانى السائدة فى تلك الفترة، أغانى خليعة.
إن الأغانى المنتشرة فى تلك الفترة كانت فى منتهى الخلاعة، إلى درجة أن أغنية «بعد العشا.. يحلى الهزار والفرفشة» مثلا تعتبر أغنية غير خليعة بمقاييس تلك الأيام! وكان من المألوف أن يقوم أكثر من مطرب أو مطربة بغناء نفس الأغنية. المهم.. طلب منى هؤلاء الأفراد من الجمهور أن أغنى شيئاً آخر بدلا من قصيدة! سبحان من أرسله رحمة.
ورفضت. استمررت فى الغناء! سبحان من.. فى هذه اللحظة بدأت تعلو أصوات نفس الأفراد من الجمهور لكى ترغمنى على ألا أستمر. بعد قليل بدأوا يصفرون لمقاطعة غنائى. ومرة أخرى استمررت فى الغناء.
ولكن المسألة لم تقف عند هذا الحد لقد وقف أفراد منهم وهجموا على المسرح يريدون إغلاق الستار، فى هذه اللحظة فقط بدأت أفقد أعصابى. كانت المسألة هى أن القادم إلى الكازينو فى هذا المساء.. يعلم مقدما من التى ستغنى، فالإعلان المعلق فى الخارج يحمل اسمى.
وهو يعلم أيضا لون الغناء الذى سيسمعه.. فهو اللون الذى كنت أقدمه. ويعلم أن الأغانى الخليعة التى يريدها لها أماكن أخرى تغنى فيها. فما معنى هذا الصفير..؟! المهم.. أننى لحظتها ثرت عندما هجموا على المسرح يحاولون إغلاق الستار. فى الواقع أننى شتمت هؤلاء الأفراد من الجمهور. ولم أنتبه إلا وأبى يصفعنى بيده! كانت أول مرة أتلقى فيها مثل هذه الصفعة من أبى، أول مرة يصفعنى فيها أمام الجمهور. وبكيت!
بكيت لأننى على حق.. وأبى يعلم ذلك. ولكن أبى كان على حق أيضا.. لقد كان أوسع منى إدراكا عندما ضربنى أمام هؤلاء الأفراد الثائرين من الجمهور.. لكى يرضيهم! لكى يهدئ من ثورتهم، لقد رأى الشر فى أعينهم وهم يهجمون على المسرح متجهين نحوى.
وخشى أبى أن يحدث لى مكروه، خشى أن يؤذينى الأفراد السكارى، فتطوع بمعاقبتى عنهم كما أنه أراد أن يلقننى درسا فى الأدب! فمهما كانت الظروف، لا يجوز لى أن أشتم واحدا من الجمهور، لا يجوز لى أن أتفوه بلفظ نابى واحد.. حتى ولو كان معى الحق فى ذلك. و.. انسحبت من المسرح فى تلك الليلة.. أجر دموعى!
مجلة صباح الخير.....