المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : طب سكة حديد ! - قصة قصيرة - وليد عمار


وليد عمار
31/12/2007, 19h28
طب سكة حديد !
- قصة قصيرة -
بقلم : وليد عَمار


- أهو البطل جه !
- ألف مبروك يا حبيبي ...
٩٥٪ مره واحده !..
- عنينا عليك بارده..
- تمام طالع لأبوه...
كانت هذه الهتافات والصيحات هي أول ما استقبل ‹ ناجي› عقب ظهوره علي باب الحجره وآخذ والداه يردان التحيات الصاع صاعين ، ودخلوا في مزاد المبروك بألف والقبله بأربعه - وكانت القُبل من نصيب أم ناجي بالطبع - وكانت الزيارات لا تنقطع من البيت فبمجرد أن تغلق أم ناجي الباب مودعه بعض المهنئين حتي تعود بأضعافهم ، الأمر الذي دفع والد ناجي ، محمد أفندي ناجي ، إلي أن يميل علي أذنها ويهمس: من أين تشتري هؤلاء الناس وهل من الممكن أن تستبدل الرجال بنساء ؟!!
كان والد ناجي شخصيه بسيطه ، ظريفه ، مُفعمه بالحياه ، وكان يعمل موظف- علي الدرجه الرابعه - بالسكه الحديد ، وكانت والده ناجي ، سعاد هانم ، لاتختلف كثيراً عن زوجها غير أنها كانت سليله حسب ونسب حيث كان جد جد جد جد جد جد جد جد .... جدها باشا ... ،يقال أنه كان كذلك ،... وكان هذا الباشا الكذا كذا ، كما كان يسميه ، محمد أفندي ، هو السبب المباشر في تعالي ، سعاد هانم ، عليه في بعض الوقت - وربما الوقت كله حيث كان من عادته آلا يضخم الأمور- .
وانتهت الزيارات وخلد كل مَن في البيت إلي الراحه ، إلا ناجي ... الذي ما إن أغلق علي نفسه باب حجرته حتي بدأ يطلق العنان لمخيلته – الدكتور / ناجي محمد ناجي . ياله من حُلم أصبح وشيك وقريب ولا يبعده عن هذا الحلم ، الذي طالما جال بمخيلته وطاف بوجدانه ، إلا ساعات يُعلن فيها مكتب التنسيق عن النسبه الخاصه للإلتحاق بكليه الطِبْ ، كانت تملئه فرحه غامره لم يحس بمثلها قبل هذا اليوم ، وأكثر ما كان يفرحه ويدخل السرور إلي قلبه الاحساس الذي انتابه بأن كل شيئ قد غدا قريب حتي ...‹ أحلام› ... ،ابنه خاله ،‹ أحلام› .. التي كانت اسم علي مسمي ، كما يقولون ، فتاه في عذوبه النهر ، ورقه النسيم ، وفضلاً عن كل هذا كانت مَن هواها قلبه ونَمتْ إليها نفسه ...، كم كان ينتظر أيه مناسبه حتي يذهب إلي بيت خاله ، علي الرغم من وجود زوجه خاله التي ما كانت ترحب به كثيراً، إلا أنه كان ينتظر أيه فرصه ليلمحها ، لا ليجلس معها أو يحدثها .
وأخذت الأيام تمر سريعه والكل ينتظر مكتب التنسيق حتي جاء محمد أفندي ذات نهار من عمله عليه بشائر الفرح وسيمأ السرور ، فبادرت الحاجه أم ناجي بسؤاله عن سبب فرحه :
- خير يا حاج ! وشك ولا القمر !
- خير يام ناجي ألف خير !
- قول يا راجل فرحني
- من هنا ورايح أوعي تندهي وتقولي يا ناجي حاف!
ولم تستطع ، سعاد هانم ، أن تتماك نفسها فصر خت صائحه :
- التنسيق ظهر !!
فأجابها وهو يملئه الفخر :
- ظهر يام الدكتور ..
وعند هذه الكلمه لم تستطع ، سعاد هانم ، أن تتمالك نفسها فأجهشت في بكاء وأخذت تتمتم بأيات الحمد والشكر لله - عز وجل - ثم سألت مسرعه :
- فين ناجي عشان يتبخر ؟! فين الدكتور ؟!
فأجابها محمد أفندي في لهجه ساخره :
- أكيد العفريت جاب الجرنال وراح عشان يفرحها !
- يفرح مين ياراجل !
- بنت خاله
- بنت خاله؟!
- أصدي خاله مهو الخال والد برده .
ثم غرق الإثنان في ضحك حتي دمعت عيونهما . ولقد كان محمد أفندي مُحق تماماً فبمجرد أن علم ناجي بخبر ظهور التنسيق حتي صلي الظهر وأبتاع الجرنال وعرف الخبر واطمأن نصف قلبه وكان لزاماً عليه أن يذهب ليطمأن النصف الآخر ، أحلام ، ومَن غيرها . وبمجرد أن ظهر علي أول الشارع وجدها تنتظر بالبلكون فرفع عينيه في سرعه ليلمحها ولكنه خفض بصره في سرعه حتي لا يراه أحد الجيران فيتهامس عما بينهما من حُبْ ، وصعد سلالم المنزل في سرعه ثم طرق الباب فوجدها أمامه ، فهمست قائله :

- مبروك ياناجي
- مبروك يا أحلام . وحشتيني !
فتحول لون سماء وجهها إلي الشفق وأشاحت بوجهها عنه وأبتسمت في حياء ، ثم سمع صوت والدها ينادي من الداخل :
- يا مرحب بالدكتور والله كان نفسنا نفرش الأرض ورد ، وفُل
وكان ناجي يعرف كم يحبه خاله فقال له :
- ربنا يخليك يا خالي ، بس ايه حكايه دكتور ديه ؟!
وأخذوا يتحدثون مع بعضهم البعض وكانت أحلام ترقب الحديث وروحها معلقه بزوج المستقبل ، ولحسن الحظ أن والدتها لم تكن موجوده لتعكر صفو هذه الجلسه العائليه الهادئه - كعادتها - وبعد ذالك إستئذن ناجي من خاله ليسمح له بالإنصراف فوافق خاله علي أن يروه قريباً ولا تشغله عنهم الدكتره .
ومرت الأشهر سريعه متلاحقه ودخل ناجي إلي كليه الطِبْ جامعه القاهرة ، وكان حلمه بالإرتباط بأحلام يكبر في قلبه ويعظم كل يوم ، حتي كال له القدر ضربه لم يكن ناجي في انتظارها قط .
ففي يوم من أيام الصيف الحار عاد فية ناجي إلي البيت فوجد والدته تبكي، فبادرها بالسؤال عما حدث
- في ايه ياماما ؟!
- أبوك يا ناجي ؟!
- ماله ؟!
- مش عارفه بقاله يومين بيشكي من قلبه ، والنهارده جبوه جماعه زميله في الشغل متسند !
- متسند ازاي؟! هو فين ؟!
- نايم في فرشته و...
ولكن ناجي لم ينتظر أن تُكمل والدته ، فهرول إلي حجره والده ، فرأي والده وعليه أبلغ آيات الإعياء فقال له ناجي ، بصوت مرتعد :
- مالك يابابا ؟!
فرد عليه والده مهدأ ً:
- أيوه اعمل عليا دكتور ، أأوم أشيلك زي زمان عشان تصدأ اني تمام .
ولكن ناجي كان يعرف والده فقد كان كما يقولون مئاوح ولا يستسلم لأي شيئ وخاصه المرض ، لذا فقد قال له ناجي :
- حرام عليك يابابا انت تعبان أوي وباين عليك انك كبر ...
ولم يُكمل ناجي فقد سقطت رأس والده من علي الوساده في قوه فقال في لهجه ملئها الرعب وهو يعتقد أن والده يداعبه كعادته :
- أوم بئا متهرجش والنبي يا بابا أوم . ...
ولكن محمد أفندي لم يكن يهرج هذه المرة ، بل كان في أصدق اللحظات وهل هناك أصدق من الموت؟! ثم رفع ناجي يد والده وأدرك بحدث طالب طِبْ مبتدأ ..أن أباه قد فارق الحياه... وبحركه لا إراديه خرج مهرولاً وإحتضن والدته وأخذ يصرخ :
- بابا ...بابا... بابا... ! وانتهي كل شيئ .
رحل الأب ونُصب الصوان ، وجاء المعزون والمشيعون . ودخل ناجي إلي حجرته ، التي كان بها بالأمس القريب يفكر كيف سيصبح طبيب ، وكيف سيكون اسمه له جَرسْ موسيقي جميل مُلفت للنظر
- ناجي محمد ناجي - ولكن كيف يتأتي له أن يكمل المسيره وقد رحل عنه والده ... محمد ناجي ، وبقي بمفرده وحيداً ، فقط ناجي .
وخرج ناجي علي والدته في أحد الأيام وطالعها بأسؤ الأخبار :
- أمي أنا مش رايح الجامعه تاني ..
- بتقول ايه يابني ؟!
- خلاص ياماما .. أنا زهقت مش عايز أبقي دكتور ..
- حرام عليك تضيع شقي أبوك وتعبه هدر ...
- أنا لازم أشتغل وأساعدك أنا كبير مش صغيير ..
حرام يابني .. ! راجع نفسك .. وكانت الأم تود أن أن تبعد هذه الفكره المشئومه عن باله ولكن كيف وهي لا تقدر علي تحمل نفقه الكليه لمده سبع سنوات متواصله ولكن كيف ... كيف ...؟!
‹أنا نويت أشتغل في مصلحه السكه الحديد ...زي بابا ..› انتزعها ناجي من أفكارها بهذا الخبر ..فقالت :
سامحني يابني كان نفسي أشوفك دكتور أد الدنيا بس ....
ده نصيب ياماما ..كل حاجه نصيب ...
ونزل ناجي والحزن يعتصر قلبه ... والألم يفتك به .... وشعر بأن القدر قد غدر به وبنصف حلمه وكان عزائه في النصف الباقي من الحلم... ولكن هيهات فلم يقسي القدر علي أحد مثلما قسي علي ناجي ، وكان العمر أبخل من أن يضحك في وجهة وآبي إلا أن يحرمه من النصف الآخر ، من منيه النفس ، من نصف القلب ، من أحلام .
فقبل أن ينهي ناجي أوراقه الخاصه بإستلام العمل الجديد ككاتب أرشيف في مصلحه السكه الحديد .. جائهم خاله وعليه سيماء الحسره وقال – موجهاً كلامه لأم ناجي - :
مأنش الأوان الفرح يدق بابنا يام ناجي ؟!
ربنا ميمنع الفرح ياخويا ..
طب أن جي وعشمان توفئي ...
علي ايه يا اخويا ..؟!
أنا حلفت ميت يامين ماوافئ إلا لما أشورك ..
خير ..!
أحلام جيلها عريس ..
ووقعت الكلمه وقع الخنجر المسموم في قلب ناجي الذي لم يستطع أن ينطق أو حتي يتحرك وأحس أن نياط قلبة تتمزق ، وأحست الآم بفلذه كبدها وعينية تملئها الدموع ... فقالت وهي تبذل أقصي جهد لترسم ابتسامه علي وجهها الحزين :
مبروك ياخويا ... والعريس مين إن شاء الله ؟!
سمير ابن خاله العروسه ..
وهكذا ظلت والده أحلام خلف ناجي حتي قطعت عليه أي طريق للوصول إلي قلب ابنتها ... ولكن مَن سمير إنة ولد فاشل ، لاسعر له ولا معني ولا ذوق .. كيف يتركوه ...هو الطبيب الذي سيكون له في الغد القريب شأن وسوف... ! ما هذا الكلام أي طبيب هذا الذي أتحدث عنه إنني فاشل مثله تماماً إنني موظف في أرشيف ، لابد أن أنظر جيداً إلي الأوراق بين يدي حتي أعرف مَن أنا .
وجاء ميعاد العُرس وانتهي سريعاً بعد أن وافقت أم ناجي علي الفرح ولم تُبدي أي اعتراض ، غير أنها تمنت لو تنشق الأرض وتبتلع ذلك العريس وتجد ناجي جالساً مكانه .
واستلم ناجي عمله ... وتذكر ناجي الجامعه والمدرج وأحلام ووالده ووالدته و...‹ ناجي أفندي خلص الأوراء دي جناب المدير عايزها يأشر عليها بنفسه..› أنتزعه ،صبحي أفندي، من أفكاره بهذه الكلمات ..وأخذت الأيام تمر سريعه مره ، بطيئه مره آخري ...وذات صباح بينما كان ناجي جالساً علي مكتبه إذ به يسمع جلبه بالخارج ..ثم صراخ ...ثم سمع أحدهم يقول ... دكتور ياخونا ..! دكتور وأحس ناجي وكأنهم ينادوه فهرول مسرعاً إلي مكان الصوت ، فوجد أحد العمال وقد تمزق نصف كتفه بشده .. فأخذ يربط له الجُرح ويضع له بعض المواد الطبيه التي كانت موجوده في الأجزخانه الخاصه بالمصلحه. وجاء الطبيب وسأل من الذي قام بمعالجه هذا الجُرح .. فعلم أنه ناجي فذهب إليه ليشكره ويحيه ... وعاد ناجي إلي البيت وهو في قمه السعاده ووقف أمام صوره والده ، وأخذ يقص عليه ما حدث بالتفصيل .. وأحس بأن والده راض عنه تمام الرضا .
وجاء اليوم التالي سريعاً ودخل ناجي إلي مكتبه فوجد الكل يناديه ويحيه .. الكل كان يناديه بكلمه واحده .. دكتور لم يستطع ناجي أن يكتم فرحته ..آخيراً حصل علي اللقب الذي كانت دائماً تهفو له نفسه .. لقد أصبح طبيباً بالرغم عن كل الناس .. بالرغم عن كل الظروف ... لقد حصل علي لقبه المُستحق رغم كل العوائق ..لقد أضحي طبيباً- في عيون بعض الناس علي الأقل – انة لم يُكمل مسيرته في كليه الطِبْ ... ولكنه حصل علي اللقب من..... طِب سكه حديد .

تمت بحمد الله

وليد عَمْاَرْ