المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الغنـاء والموسيـقا عنـد العرب/2


أبو الفداء
29/07/2007, 07h43
وقالوا: المقصود بالآية الكريمة: "إن أنكر الأصوات لصوت الحمير"(20)، هو مدح "الصوت الحسن".
ويستدل هؤلاء على أن الغناء حلال، من الآية الكريمة: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده:(21).
أما المعارضون، فيجعلون الغناء حراماً، لأنه ينفّر القلوب، ويستنفر العقول، ويبعث على اللهو، ويحضّ على الطرب(22). ولأنه أيضاً يستخدم الشعر. ويشيرون في هذا المعنى، إلى انتقاد القرآن للشعراء في الآية الكريمة: "ومن الناس من يشتري لهو الحديث، ليضل عن سبيل الله، بغير علم، ويتخذها هَزْواً، أولئك لهم عذاب مهين"(23). وهم يعتقدون أنّ لَهوَ الحديث المذكور في الآية هو "الغناء"، والمعني بذلك الشاعر الموسيقي النضر بن الحارث.
لكن بعض المفسرين يرون خطأ هذا التأويل، إذ نزلت هذه الآية في قوم، كانوا يشترون الكتب (من أخبار السير والأحاديث القديمة) ويضاهون بها القرآن، ويقولون: إنها أفضل منه(24). وليس من سمع الغناء- في رأيهم- من يتخذ آيات الله هَزْوَاً(25).
ويستدل المعارضون أيضاً على انتقاد القرآن للشعراء، بالآية الكريمة: "والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما يفعلون".
لكن هذه الآيات لا تنتقد الشعر- وهو ما هو عليه في حياة العرب الثقافية- بل تنتقد الشعراء المشركين، الذين راحوا يهجون النبي (ص)، وهو لم يكن يخشاهم، بل لم يدخر وسعاً في إضعافهم، وفي إهدار دمهم أحياناً، وهذا ما حدث مع الشعراء: كعب بن الأشرف، وكعب بن زهير، والنضر بن الحارث.
وهذا ما فعله النبي (ص) بالقيان أيضاً، فقد وصلتنا أسماء ثلاث قيان، أمر بقتلهن، قبيل فتح مكة عام /630/م، بسبب غنائهن في هجائه، وهن: سارة (جارية عمرو بن هاشم بن عبد المطلب)، لكنها نجت من القتل لإسلامها، وقُرَيْنى وقريبة (خادمتا عبد الله بن هلال بن حطل الدرامي)، ولكن لم تقتل منهما سوى قُرَيْنى.
إن هذه الآيات الكريمة التي يعتمد عليها دعاة التحريم، لا تمثل دعماً حقيقياً لرأيهم، ولهذا لجأوا إلى الحديث الشريف، فاحتجوا بالأحاديث التالية(26):
روت عائشة (رض)، عن النبي (ص)، أنه قال: "إن الله حرم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها". ويعتقد الإمام الغزالي (رض) أن هذا الحديث يعني قيان الحانات وحدهن.
وروى جابر بن عبد الله، أن النبي (ص) قال: "كان إبليس أول من ناح، وأول من تغنّى".
وعن أبي أمامة: "ما رفع أحد صوته بغناء، إلاّ بعث الله له شيطانين على منكبيه، يضربان بأعقابهما على صدره، حتى يمسك".
وينسب بعضهم إلى النبي (ص) أنه قال: "الغناء ينبت في القلب النفاق، كما ينبت الماء البقل". ونسب بعضهم هذا القول لابن مسعود.
في صحيح الترمزي، أن النبي (ص) لعن الغناء والمغنّي.
وفي حديث آخر، أن القيان والمعازف من علامات نهاية العالم، وأن الآلات الموسيقية هي من أكبر الوسائل التي يغوى بها الشيطان الرجال تأثيراً. فالآلة الموسيقية هي (مؤذن) الشيطان، يدعو لعبادته.
وفي الوقت نفسه، فإن الأحاديث الشريفة التي تبيح الغناء والموسيقى، لا تقل عن الأحاديث التي تحرمهما.
عن أصل الغناء ورد الحديث التالي:
عن النبي (ص) أنه قال: "أتدرون متى كان الحداء؟ "، قالوا: لا، بأبينا أنت وأمنا يا رسول الله، قال: "إنّ أباكم مضر خرج في طلب مال له، فوجد غلاماً له، قد تفرقت إبله، فضربه على يده بالعصا، فعدا الغلام في الوادي، وهو يصيح: وايداه، فسمعت الإبل صوته، فعطفت عليه، فقال مضر: لو اشتق من الكلام مثل هذا، لكان كلاماً تجتمع عليه الإبل، فاشتق الحداء"(27).
وعن أنس بن مالك (رض): " أن محمداً (ص) كان يحدى له في السفر، وأن أَنْجَشَة كان يحدو بالنساء، والبراء بن مالك (أخا أنس) بالرجال".
ويعترف الغزالي، الذي ذكر هذا الحديث، بأنّ الحداء وراء الجمال، لم يزل من عادة العرب، زمن الرسول والصحابة، ويقول: إنه أشعار تؤدى بأصوات طيبة، وألحان موزونة. (الغزالي/217).
وقد نسب بعض الرواة إلى النبي (ص) أنه قال: "ما بعث الله نبياً، إلاّ حسن الصوت"، و"الله أَشَدُّ أُذُناً للرجل الحسن الصوت، من صاحب القينة لقينته"(28).
وقال النبي (ص) لأبي موسى الأشعري (رض)، لما أعجبه حسن صوته: "لقد أوتيت مزماراً من مزامير داود"(29).
واحتج الذين أجازوا الغناء أيضاً، بأن النبي (ص) قال لحسان بن ثابت:
"شُنَّ الغطاريف على عبد مناف، فوالله لشعرك عليهم أشدُّ من وقع السهام في غلس الظلام".
وبأنه قال لعائشة (رض)، حين عادت إلى منزلها، بعد أن أخذت إلى أحد الأنصار عروسه: "أهديتم الفتاة إلى بعلها ؟"، قالت: نعم، قال: "فبعثتم معها من يغني ؟"، قالت: لم نفعل، قال: "أو ما علمتِ أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل؟ ألا بعثتم معها من يقول:
أتينـاكم أتينــاكم فحيونـا نحييكم
ولولا الحبة السمراء لم نحلل بواديكم(30) .
القيان زمن النبي (ص):
أما القيان، فثمة أحاديث تدل على إباحة النبي (ص) لهن:
عن ابن عباس (رض) قال: مر النبي (ص) بحسان بن ثابت، وقد رش فناء أَطَمِهِ، ومعه أصحابه سماطَيْن، وجارية يقال لها سيرين، معها مِزْهر، تختطف السماطَين، وهي تغنيهم، فلما مر النبي (ص)، ولم يأذن لهم، ولم ينههم، فانتهى إليها، وهي تقول:
هل عليّ ويحكمـا إن لهوتُ من حرج؟
فتبسم النبي (ص)، وقال: "لا حرج عليكِ، إن شاء الله"(31).
وسيرين –أو شيرين- إحدى جاريتين أهداهما له ملك مصر المقوقس، فأهداها لشاعره حسان، وتزوج بالأخرى، وهي ماوية القبطية (أم ولده إبراهيم).
وحدّث البخاري عن الرُبَيِّع بنت مُعَوَّذ بن عفراء، قالت: جاء النبي (ص)، فدخل، حين بُني عَلَيَّ، فجلس على فراش، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف، حتى قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال: "دعي هذا، وقولي بالذين تقولين"(32).
وروت عائشة (رض) أن أباها (أبا بكر الصديق) دخل عليها، وعندها جاريتان في أيام مِنى، تُدَفِّفان وتضربان، والنبي (ص) مُتَغَشٍّ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر (رض)، فكشف النبي (ص) عن وجهه، وقال: "دعهما ياأبا بكر، فإنها أيام عيد".
وروي عن عائشة (رض) قولها: "دخل عليّ رسول الله (ص)، وعندي جاريتان تغنيان، فاضطجع على الفراش، وحوّل وجهه، فدخل أبو بكر (رض)، فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله (ص)؟ فقال رسول الله (ص): دعهما"(33).
وعن عائشة (رض) أيضاً، قالت: "كانت جارية تغني عندي، فاستأذن عمر، فلما سمعته الجارية هربت، فدخل -والنبي يبتسم- فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله (كأنه يسأله عن سبب ضحكه)، فقال: كانت هنا جارية تغني، فلما سمعت خطواتك هربت، فقال عمر: لن أرحل حتى أسمع ما سمع رسول الله، فاستدعى الرسول الجارية، فأخذت تغني، وهو يسمعها"(34).
الغناء والموسيقى زمن النبي (ص):
في كتاب الأغاني، رواية تدل على عدم تحريم الموسيقى في فجر الإسلام، فقد سمعت قريش أن الأعشى ميمون بن قيس، الشاعر الموسيقار المشهور، هو في طريقه إلى النبي (ص)، فصممت على منعه، لأن النبي قد حرم كثيراً من الأشياء التي وهب الأعشى لها قلبه. وحين سأل الأعشى أبا سفيان زعيم قريش، عن هذه الأشياء التي منع بسببها من الوصول إلى النبي (ص)، أجاب: الزنا والقمار والخمر والربا، ولم يذكر الموسيقا، ولو كانت من المحرمات لذكرها يقيناً، نظراً إلى شغف الأعشى بهذا الفن(35).
إن المجيزين للغناء، لا يرون فيه بأساً، إن لم يكن فيه أمر محرّم. فهم لا يكرهون السماع عند العرس والوليمة والعقيقة والختان وغيرها، فإن هذه الأمور تزيد السرور، وتحرك المشاعر(36). ويدل عليه ما روي من إنشاد النساء بالدف والألحان عند قدوم النبي (ص) إلى يثرب، مهاجراً من مكة:
نحن جوارٍ من بني النجار يا حبذا محمدٌ من جار
وكان أول غناء تغنت به فتيات بني النجار وصبيانهم في المدينة المنورة،عند قدوم الرسول (ص) هو:
طلـع البدر علينـا من ثنيات الــوداع
وجب الشكر علينـا مـا دعــا لله داع
أيّها المبعوث فينـا جئت بالأمر المطـاع
جئت شرفت المدينة مرحبـاً يا خير داع(37)

لقد حافظ الإسلام على الرابطة الوثيقة بين الشعر والموسيقى، التي قرنت بينهما في الجاهلية، إلاّ أنها أخذت طابعاً فقهياً، فبعض الفقهاء رأى أن حكم القرآن على الشعر والشعراء، ينطبق على الموسيقا، وبعضهم ذهب إلى أن إباحة الشعر، جعل الغناء المتفرع عنه مباحاً أيضاً.
وفي هذا يقول ابن عبد ربه:
"يختلف الناس في النظر إلى الغناء، فمعظم أهل الحجاز يحللونه، ولكن معظم العراقيين يكرهونه. ومن حجة من أجازه، أن أصله الشعر الذي أمر النبي (ص) به، وحض عليه، وندب أصحابه إليه، وتجنّد به على المشركين"(38).
وفي هذا السياق، قالت عائشة (رض): "علّموا أولادكم الشعر، تعذب ألسنتهم"(39).
وروي أن النبي (ص) أردف الشريد، فاستنشده من شعر أمية، فأنشده مائة قافية، وهو يقول: "هيه" استحساناً لها.
وورد حديث آخر، يدل على أن محمداً (ص) أباح الموسيقا بالآلات، حين قال : "أَحْيِ الزواج، واضرب الغربال". وقد أحيا زواجه من خديجة (رض) بالموسيقا. وكذلك زواجَ ابنته فاطمة. ويروى عن وجود كثير من المغنين بين أصدقائه وأعوانه(40).

الغناء والموسيقا في عهد الخلفاء الراشدين (632-661م):
في بداية هذا العهد، حرم الخلفاء الموسيقا، لأنهم أرادوا تطبيق الشريعة الإسلامية، كما وضعها النبي (ص)، وفسرها الصحابة.