المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الموسيقى عند إخوان الصفا


abidoune
25/07/2007, 12h16
أضواء على الإخوان الصفا
جريدة (الزمان) --- العدد 1767 --- التاريخ 2004 - 3 - 27
حسين السكاف

ظروف النشأة
إخوان الصفاء، جماعة تألفت في القرن الرابع الهجري ــ القرن العاشر الميلادي ــ أي إنهم ظهروا في فترة ضعف الدولة العباسية، حيت الحالة السياسية المضطربة، والتي ظهرت فيها الكثير من التيارات والآراء والأفكار علي اختلاف وجهاتها، بالإضافة إلي الثورات والفتن، ولكن هذه الفترة لم تحل دون تقدم الفكر، حيث كان الأمراء يتنافسون فيما بينهم في تقريب العلماء والأدباء، وكانوا يتعهدون دور العلم والتعليم بالبذل والعناية. بالإضافة إلي أن الكثير من تراجم العلوم والأدب والفلسفة كانت قد إنتشرت منذ صدر الدولة العباسية، وتداولها الناس، يشرحونها ويدرسونها، حتي ظهر بعض من المتخصصين بما جاءت به هذه الكتب، فظهر الفلاسفة والعلماء المسلمون، وأصبحت الأفكار معدة لقبول المباحث الطبيعية والغيبية، وأصبح لها أنصار ومناهضين، يتجادلون فيها موافقة أو معارضة، فكانت التربة صالحة للزرع سياسياً وفكرياً. عندها حمل إخوان الصفاء أنفسهم علي نشر فلسفتهم التي تحاول التوفيق بين الفلسفلة اليونانية التقليدية وظاهر الشريعة الإسلامية. وكان موطن هؤلاء الفلاسفة هو البصرة، ولها فرع في بغداد، ولم يعرف من أشخاصها سوي خمسة يتغشاهم الغموض والشك، فلقد كانوا في تستر وإكتمام، وجاء تكتمهم في إجتماعاتهم مساعداً علي الريبة بهم، فقالوا فيهم إنهم جماعة ترمي إلي غاية سياسية يقصدون بها قلب السلطان والدين معاً، لكنهم لم يستطيعوا إثبات هذه التهمة عليهم، لأن سلوكهم بين الناس لم ينمَّ علي اشتغالهم بالسياسة، لما تحلوا به من فضائل الزهد في الدنيا، والمحبة والوفاء والصدق. وهم أبو سليمان محمد بن معشر السبتي المعروف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، و أبو أحمد المهرجاني الذي سمي في بعض المصادر محمد بن أحمد النهرجوري حسب ما جاء به المستشرق دي بور، ثم الحسن العوفي، وزيد بن رفاعة. وإخوان الصفا جماعة تألفت بالعشرة وتصافت بالصداقة وإجتمعت علي القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهباً فلسفياً يراد به الوصل إلي الفوز برضوان الله. حيث قالوا أن الشريعة قد دُنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلي غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة، لأنها حاوية للحكمة الإعتقادية والمصلحة الإجتهادية، ومتي انتظمت الفلسفة الإجتهادية اليونانية والشريعة الإسلامية فقد حصل الكمال. وهم جماعة قاموا بتعريف الشريعة والفلسفة من حيث أن الشريعة طبُّ المرضي، ــ ويقصد هنا بالمرضي هم المجتمعات التي تتعاظم بها الأمراض الإجتماعية والأخلاقية فيصبح من الضروري أن ترسل القدرة الإلهيّة بمنقذ لها علي صورة نبي ــ والفلسفة طبُ الأصحاء، والأنبياء يطببون المرضي حتي لا يتزايد مرضهم، وحتي يزول المرض بالعافية. أما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة علي أصحابها حتي لا يعتريهم مرض، وبين مدَبِّر المريض ومدَبِّر الصحيح فرق ظاهر وأمر مكشوف. وقد جاءت هذه المقولة أو النظرية علي لسان المقدسي حسب قول الرواة.
الإتهام بالسياسة
ربما يأتي إتهام هذه المجموعة من الفلاسفة بالعمل السياسي، ــ بالإضافة إلي ما ذُكِر ــ كونهم قد قسموا درجات ومنازل المنتمين إليهم إلي مراتب تعتمد علي العمر وبألقاب أتي بعضها قريباً جداً من ألقاب المجموعات الحاكمة، فكل مرتبة قد أخذت إسماً له دلالة معينة، إبتداءاً من (مرتبة ذوي الصنائع) التي تضم الشبان الذين أتموا الخامسة عشرة، لما لهم من صفاء جوهر النفس وجودة القبول وسرعة التصور. ثم تليها مرتبة (الرؤساء ذوي السياسات) وتكون من الذين أتموا الثلاثين، وعرفوا بالحكمة والعقل. والثالثة هي مرتبة (الملوك ذوي السلطان) وهي تخص الذين أتموا الأربعين، وعُرفوا بالقيام علي حفظ الناموس الإلهي، أما الرابعة فهي المرتبة العليا، والتي تتشكل من الذين أتموا الخمسين، حيث أعطوهم صورة الملائكة من حيث قبول التأييد ومشاهدة الحق عياناً، والوقوف علي أحوال الآخرة، وصورة الملائكة تأتي من الآيات القرآنية التي تفصح عن أن الرجال الصالحين في أعمالهم وتقواهم في دنياهم، يصبحون ملائكة في الآخرة. وإذا كان الإخوان قد آثروا الإستتار في اجتماعاتهم، فلم يأذنوا للغرباء بحضور مجالسهم، والإستماع إلي أحاديثهم ومناقشاتهم، فلا يعني ذلك أنهم حجبوا آراءهم وعقائدهم عن الناس، بل كان من سياستهم إذاعتها والدعوة لها، لإجتلاب الأتباع والأنصار والمؤيدين، فظهرت وإنتشرت علي أيدي دعاتهم، وأطلع عليها جماعات المثقفين، ودخلت الأندلس، حيث أدخلها الطبيب أبو الحكم الكرماني القرطبي بعد رحلته إلي المشرق للتبحر في العلم. وقد نشروا هؤلاء الفلاسفة دعواهم علي شكل رسائل وهي مؤلفة من اثنتين وخمسين رسالة مقَسَّمة إلي أربعة أقسام، رياضية تعليمية، وجسمانية طبيعية، ونفسانية عقلية، وناموسية إلهية. وما يهمنا في مقالنا هذا فهو القسم الرياضي التعليمي وهو أول أقسام رسائلهم، لما للعدد مقام خطير في فلسفتهم، لأنهم تأثروا بطريفة الفيثاغوريين ولا سيما المحدثين منهم. والرسائل الرياضية جاءت في أربع عشرة رسالة تتضمن (العدد) و (الهندسة) و (النجوم) و (الموسيقي) وهي الرسالة الرابعة من هذا القسم حيث تناولوا علم صناعة التأليف، والبيان علي أن النغم والألحان الموزونة لها تأثيرات في نفوس المستمعين، كتأثير الأدوية والأشربة والترياقات في الأجسام، وكذلك ربط الموسيقي بحركات الأفلاك ودورانها واحتكاك.
الهدف والأغراض
أوضحت الرسالة هدفها، حين جاء علي لسان إخوان الصفاء قولهم: (نريد أن نذكر في هذه الرسالة الملقَّبة بالموسيقي، الصناعة المركبة من الجسمانية والروحانية التي هي صناعة التأليف في معرفة النِّسَب، وغرضنا هو معرفة النِّسَب وكيفية التأليف، اللذين بهما وبمعرفتهما يكون الحَذق في الصنائع كلِّها). ليذهبوا بعد ذلك إلي ذكر بعض الألحان من حيث أغراضها ومسمياتها كما جاء في النص التالي: (إعلم يا أخي، أيّدَك الله وإيانا بروح منه، بأن المادة الأساسية الموضوعة في الصناعة الموسيقية، كلُّها جواهر روحانية، وهي نفوس المستمعين، وفي تأثيراتها مظاهر روحانية أيضاً. وذلك أن ألحان الموسيقي أصواتٌ ونغماتٌ، لها في النفوس تأثيراتٌ .. فمن تلك النغمات والأصوات ما يحرك النفوس نحو الأعمال الشاقة، والصنائع المتعبة، وينشطها ويقوي عزماتها، .. وهي الألحان (المُشجعة) التي تستعمل في الحروب، .. ومن الألحان والنغمات أيضاً ما يُسكِّن سَوْرة الغضب ويحل الأحقاد ويوقع الصلح، ويكسب الألفة والمحبة، .. ومن الألحان والنغمات ما يَنقُل النفوس من حالٍ إلي حال، ويغير أخلاقها من ضدٍ إلي ضد،.. ولصناعة الموسيقي تأثيرات في نفوس المستمعين، والدليل استعمال الناس لها، تارةً عند الفرح والسرور والأعراس والولائم والدعوات، وتارة عند الحزن والغم والمصائب وفي المآتم، وتارة في بيوت العِبادات وفي الأعياد، وتارةً في الأسواق والمنازل، وفي الإسفار وفي الحَضَر، وعند الراحة والتعب، وفي مجالس الملوك ومنازل السُّوقة، ويستعملها الرجالُ والنساء والصَّبيان والمشايخ والعلماء والجُهّال والصُّناع والتجار وجميع طبقات الناس).
اكتشاف الموسيقي
تعزو رسالة الموسيقي لإخوان الصفاء، أن كل الصنائع التي عرفتها البشرية هي من إبتكار العلماء بحكمتهم، ثم تعلمها الناس منهم وصارت وراثة من الحكماء للعامة، ومن العلماء للمتعلمين، والحال ينطبق علي صناعة الموسيقي. ثم يذهبون إلي السبب في اكتشاف الموسيقي، فيعزون ذلك إلي القدرة الإلهية، ومن ثم إنتشار هذا العلم في دور العبادة أولاً عن طريق الدعاء والتضرع إلي الله. حيث جاء في الرسالة: (وأعلم يا أخي، إن أحد الأسباب التي دعت الحكماء إلي وضع النَّواميس، واستعمال سُننها، هو ما قد لاح لهم من موجبات أحكام النجوم من السعادات والمناحس، عند إبتداء القرانات وتحاويل السِّنينَ من الغلاء أو الرُّخص، أو الجَدْب أو الخِصب، أو القحط أو الطاعون والوباء. فلما تبين لهم ذلك طلبوا حيلةً تُنجِيهم منها إنْ كانت شراً، وتوفِّر حظهم فيها إن كان خيراً، فلم يجدوا حيلةً أنجي ولا شيئاً أنفعَ من استعمال سُنن النَّواميس الإلهيّة التي هي الصوم والصلاة والقرابين والدُّعاء عند ذلك بالتضرُّع إلي الله تعالي، بالخضوع والخشوع والبُكاء والسؤال إيّاه أن يصرف عنهم ذلك.. وكانوا يستعملون عند الدُّعاء والتسبيح والقراءة ألحاناً من الموسيقي تسمَّي (المُحزِن) وهي التي تُرقِّق القلوب إذا سُمِعت، وتُبكي العيون، وتُكسب النفوس النَّدامة علي سالف الذنوب. فهذا كان أحد أسباب استخراج الحكماء صناعة الموسيقي، واستعمالها في الهياكل وعند القرابين والدعاء والصلوات). ثم راحوا يذكرون في رسالتهم هذه العديد من الألحان وأغراضها، وكلها منسوبة إلي العلماء كونهم هم من اكتشف هذا العلم. فذكروا بأن هناك لحناً يسمي (المُشجِّع) كانت تستعمله قادة الجيوش في الحروب ــ كما ذكرنا سابقاً ــ، ولحناً آخر كانوا يستعملونه في المستشفيات وقت الإسحار ليخفف آلام المرضي. ثم استخرج العلماء لحناً آخر يستعمل عند الأعمال الشاقة، مثل ما يستعمله الحمّالون والبنّاؤون ومُلاح الزوارق وأصحاب المراكب، وهناك الألحان المفرحة للأعراس والولائم. ثم يذهبون إلي الموسيقي والألحان التي تُنشَد إلي الحيوانات، مثل ما يستعمله الجمّالون من الحداء، لينشِّط الجمال في السَّير، وكذلك موسيقي وأغاني الرعاة عند ورود مواشيهم الماء كالصَّفير ترغيباً لها في شربه، وهناك ألحاناً أخري تستعمل عند هيجان الماشية للنزو والسفاد (النكاح)، ولها كذلك ألحان عند حلب ألبانها. ثم يعودون إلي الألحان التي تخص البشر فيذكرون تلك التي تغنيها النساء للأطفال، وهي ألحان تُسكِّن النفوس وتجلب النوم. ليَصِلوا إلي حصيلة مفادها أن صناعة الموسيقي يستعملها كل الأمم والشعوب والأفراد، ويستلذها جميع الحيوانات التي لها حاسة السَّمع. ثم يذكروا بعض التعريفات الموسيقية، علي الرغم من أن هناك أكثر من تعريف يجده القارئ بين زوايا رسالتهم هذه، فتقول الرسالة: (فنقول الآن: إن الموسيقي هي الغناءُ، والموسيقارَ هو المُغنّي، والموسيقات هو آلة الغناء، والغناء هو ألحان مؤلَّفة، واللحن هو نغماتٌ متواتِرةٌ، والنَّغمات هي أصواتٌ مُتَّزِنة، والصوت هو قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجسام بعضها ببعض.
والحقيقة أن رسالة الموسيقي لإخوان الصفاء هي رسالة شاملة، وكثيرة الإسهاب، فلقد عَمَدَتْ بعد أن صَنَفَتْ الألحان، إلي تصنيف الأصوات، حيث صُنِّفت إلي نوعين، حيواني وغير حيواني، والأخير صُنِّف إلي نوعين أيضاً، أصوات طبيعية كصوت الحجر والحديد والخشب والرعد والريح، وأصوات آلية كصوت الطبل والبوق والمزامير. أما الأصوات الحيوانية فصنفوها إلي نوعين أيضاً، منطقية وغير منطقية، والأخيرة مثل أصوات الحيوانات الغير ناطقة. أما المنطقية فهي أصوات الناس والتي تنقسم إلي قسمين، دالة وغير دالة. وقد أعطوا إلي الهواء الشرف في نقل هذه الأصوات (لشدة لطافته وخفّة جوهره وسرعة حركة أجزائه.