المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متحف ام كلثوم


freed
14/05/2007, 13h04
كتب محمود الورداني


عصر من الغناء العربي الأصيل الجميل.
في صباح 3 فبراير 1975 اختطف الملايين من شوارع القاهرة جثمان أم كلثوم الذي كان مقررا أن يشيّع من جامع (عمر مكرم) الشهير, وظلت الملايين تدور بنعشها أكثر من ثلاث ساعات حتى مسجد (سيدنا الحسين) لاعتقادهم أنه أحد المساجد الأثيرة لديها. وقبل صلاة الجنازة على جثمانها ناشد إمام المسجد الناس أن يتركوا الجثمان ليجري دفنها وفقا للشرع.
وهنا فقط استجابوا...
تذكرت هذا وأنا أدلف إلى داخل متحف أم كلثوم المقام في جزيرة الروضة ملاصقا لمقياس النيل ومطلا على منطقة يبدو فيها النيل في أقصى مساحاته اتساعا. في الغرب تبدو أشباح الأهرام الثلاثة بعيدة, وفي الشرق تظهر آخر سلسلة جبال المقطم.
المتحف الذي أقامته وزارة الثقافة في مصر أخيرا لأم كلثوم بعد ستة وعشرين عاما من رحيلها أقل كثيرا من قيمتها ودورها وتأثيرها, ومع ذلك فهو الوحيد المتاح!
وفي أعقاب رحيلها مباشرة, تعالت الأصوات بتلك الحماسة المعهودة بضرورة تحويل (فيلتها) التي قضت بين جدرانها عشرات السنين, وشهدت أفراحها وأحزانها ومولد أغانيها إلى متحف. لكن الفيلا ما لبثت أن بيعت واشتراها أحد المستثمرين الذي أسرع بهدمها وبنى مكانها بناية شائهة مقبضة تشبه سجناً (خمس نجوم)!
كانت فيلا أم كلثوم تطل على النيل أيضا في حي الزمالك الذي يعد من أكثر أحياء العاصمة ثراء ويصل سعر المتر من الأرض فيه إلى أرقام فلكية, لذلك سرعان ما هدم المستثمر جدران الفيلا وحطم تاريخا كاملا وذاكرة لوطن وأمة!
الحقيقة أن أم كلثوم كانت تستحق متحفا عربيا وليس مصريا فقط, فما أسدته لنا جميعا - من المحيط إلى الخليج - دين يطوق أعناق الملايين من العرب, ولم يكن صعبا على هذه الملايين أن تكتتب من أجل شراء بيت أم كلثوم, إلا أن هذا ما جرى, وفقدنا بيتها بكل ما يمثله من ذكرى, كما فقدنا أيضا مقتنياتها وأثاث بيتها وأشياءها الصغيرة العزيزة!
الحقيقة أيضا أن ما حصلت عليه من ألقاب وصفات كانت تستحقها تماما, فهي معجزة الغناء العربي وكوكب الشرق والصوت الساحر وفنانة الشعب, وغيرها من الألقاب والتسميات, والمعجزة التي تتجاوز كل هذا هي رحلتها الأسطورية من فلاحة ولدت وعاشت سنواتها الأولى في قرية (طماي الزهايرة) الصغيرة في أعماق الدلتا, إلى تلك المكانة التي احتلتها في قلوب الملايين وامتدت لعدة عقود متوالية, بل ولاتزال حتى الآن تحتل مكانتها في قلوب ملايين لم يروها ولم يعاصروها, فصوتها وأغانيها لاتزال بيننا.
نعود إلى المتحف الذي يقع في أقصى الركن الجنوبي الغربي من جزيرة الروضة, ويشغل أحد المباني الملحقة بقصر (المانسترلي) والأرجح أنه كان مبنى مخصصا للخدمات (!!) ومساحته لا تتجاوز 250 مترا مربعا. وهكذا... بقدر ما كان صوت أم كلثوم يسع الدنيا كلها, هاهو متحفها لا يتجاوز 250 مترا مربعا! أما قصر المانسترلي نفسه فهو أثر تاريخي مهم تبلغ مساحته 1000 متر مربع وصاحبه حسن فؤاد باشا المانسترلي الذي بناه عام 1851م, حين كان واحدا من كبار رجال الدولة في عهد الخديو عباس حلمي, وكان آخر منصب تولاه هو وزير الداخلية عام 1857 وتوفي عام 1859.
في 28/12/2001 تم افتتاح المتحف رسميا - وأول ما يواجه الزائر له حافظة زجاجية تضم نظارتها المطعمة بالألماس ومنديلها الذي كانت تضمه بين يديها أثناء الغناء, واشتهرت به كما يعرف الجميع. ثم تتوالى الحوافظ الزجاجية وداخلها مقتنياتها.

جواز سفر ومفكرتان
الأضواء الخافتة وألوان الجدران الداكنة تضفي جوا من الرهبة والقداسة عندما يتجول زائر متحف أم كلثوم بين ردهاته القليلة الضيقة. المعروض في الحوافظ الزجاجية قليل جدا يكاد يكون مجرد عينات! هناك - على وجه الحصر - ثلاثة أزواج من الأحذية وثلاث حقائب حريمي, ثماني فساتين تنتمي لطراز واحد وهي على الأرجح تم تفصيلها خلال الستينيات.
بعض الأوسمة والنياشين والأنواط وبراءاتها ومن بينها نيشان الكمال الذي أهداه لها الملك فاروق, وقلادة النيل - أعلى الأوسمة وأرفعها في مصر التي أهداها لها جمال عبدالناصر, ودروع , ومن بينها درع اتحاد طلبة جامعة الكويت...
ومن بين مقتنياتها أيضا جواز سفرها الدبلوماسي برقم 1534 والعود الذي كانت تحبه, وقصائد وأغاني بخط أحمد رامي وبيرم التونسي وأحمد شوقي وعبدالفتاح مصطفى والأمير عبدالله الفيصل وجورج جرداق, أما قصيدة نهج البردة فهي بخط يد كبير خطاطي العصر الفنان سيد عبدالقوي, ومفكرتان يوميتان لعامي 1954و1964 مفتوحتان على صفحتين تضمان حسابات غامضة!! وأخيرا مفكرة صغيرة تضم الصفحة المفتوحة عليها كلمات بالفرنسية ومقابلها بالعربية... يكاد ما سبق أن يكون حصرا لمقتنيات أم كلثوم, إذا استثنينا بعض الاسطوانات المتناثرة ومسجلا وراديو وميكروفونا أهدته الاذاعة إلى المتحف وسجلت عليه أم كلثوم عددا كبيرا من أغانيها.
أما (العلبة) الصغيرة الملحقة بالمتحف والمخصصة كمكتبة فلا تضم سوى أربعة أجهزة يمكن من خلالها طلب الأغاني إليكترونيا وسماعها بـ(الهيدفون) وبعض الكتب القليلة عنها وببليوجرافيا وبعض النوتات الموسيقية.
الوطن والبيت
وعلى الرغم من أن الملك فاروق كان قد منحها واحدا من أرفع النياشين وهو نيشان الكمال عام 1944, فإنها بعد هزيمة 1948 دعت جميع أفراد كتيبة الفالوجا التي حوصرت أثناء الحرب إلى حفل استقبال في بيتها تعبيرا عن تضامنها معهم لأن الكتيبة رفضت الاستسلام, وكان من بين ضباطها جمال عبدالناصر, الذي حضر الحفل والتقى بأم كلثوم, لذلك لم يكن غريبا أن يتدخل شخصيا بعد الثورة, حين علم أن أحد الضباط أمر بعدم إذاعة أغاني أم كلثوم باعتبارها تنتمي للعهد البائد, وأصر على الاعتذار لها, وعادت أغانيها للإذاعة, بل وأنشأ إذاعة خاصة لها ظلت تذيع أغانيها بين الخامسة والعاشرة مساء بين أغاني أخرى للعديد من المطربين والمطربات.
أما الحياة الخاصة للفنانة الكبيرة فقد اتسمت بالتحفظ الشديد, بسبب نشأتها الريفية, ولذلك ظلت مصرّة على ملابسها المحتشمة الأنيقة. وتركز الباحثة الأمريكية فرجينيا دانيلسون في كتابها السابق الإشارة إليه على هذا الجانب كثيرا من شخصيتها. فعلى الرغم من أنها كانت (بنت نكتة... واشتهرت بقفشاتها وتعليقاتها الذكية اللماحة وسرعة بديهتها, فإنها ظلت متحفظة على الدوام).
تزوجت أم كلثوم مرتين الأولى من الملحن محمود الشريف زواجا لم يطل كثيرا, وقيل إنها تزوجته ردا على تخلي شريف صبري باشا خال الملك فاروق عنها تحت ضغط العائلة المالكة, فكيف يتزوج الباشا من امرأة هي في نهاية الأمر من عامة الشعب, بعد أن كانا على وشك الزواج فعلا, ويقال إنها ردت اللطمة للباشا بزواجها المفاجئ من الفنان الشعبي الذي كان على أولى درجات السلم في ذلك الوقت.
زواجها الثاني والأخير كان من الدكتور حسن الحفناوي أحد أطبائها فضلا عن أنه كان واحدا من محبي فنها ومستمعا من أصحاب الصفوف الأولى في كل حفلاتها. تم الزواج - كما نشر الأهرام - في 17/9/1954 في جو عائلي هادئ, ود. الحفناوي كان وقتها أستاذا مساعدا بكلية طب قصر العيني, وهو من مواليد عام 1915, أي أنه كان أصغر منها سنا, ومع ذلك دام الزواج حتى رحيلها عام 1975.
بعد الثورة, شاركت أم كلثوم في تشكيل ملامح المجتمع الجديد, وفي عام 1955 تلقت خطاب شكر من جمال عبدالناصر لتبرعها بألف جنيه ضمن حملة التبرعات لتسليح الجيش, ومنحها الميدالية الذهبية لأسبوع التسليح.
وفي عام 1956غنت لتأميم القناة أغنيتها الشهيرة (ما أحلاك يا مصري), وبعد العدوان الثلاثي غنت (والله زمان يا سلاحي) التي تحولت إلى نشيد قومي, بل ودعيت في العام التالي لحضور افتتاح مجلس الأمة المصري في دورته الجديدة كإحدى الشخصيات القومية الكبرى. أما عام 1960 فقد شهد وقوفها أمام عدسات التلفزيون للمرة الأولى, بعد أن رفضت مرارا تصوير حفلاتها تلفزيونيا, وفي العام نفسه تعرفت على الملحن الشاب بليغ حمدي وغنت أول لحن له: (حب إيه اللي انت جاي تقول عليه) كما حصلت على وسام الاستحقاق المصري - في السنة نفسها - من الدرجة الأولى تقديرا لفنها.
يرى الكثيرون أن بدايات تراجع أم كلثوم فنيا ترجع إلى أول أغنية لحنها لها محمد عبدالوهاب وهي (أنت عمري) عام 1964, فقد تخلت عن القوالب وطرق الأداء والألحان التي برعت فيها, واستسلمت للألحان التي تبدو وكأنها في واد وصوت أم كلثوم في واد آخر, إلى جانب اعتماد عبدالوهاب على الآلات ذات الحس الغربي مثل الجيتار الكهربائي والمقدمات الموسيقية الطويلة المملة.
ولحسن حظ أم كلثوم, ولحسن حظ الغناء العربي, ولحسن حظ عشاقها, لم يمهلها عمرها كثيرا لتشهد المزيد من لحظات الغروب والزوال. كان آخر حفلاتها في الخميس الأول من يناير عام 1973, حيث بكت على المسرح وهي تغني, وبكى جمهورها. ثم ألغي حفل الشهر التالي في فبراير 1973 واعتذرت الإذاعة لملايين العشاق الذين كانوا ينتظرون الخميس الأول من كل شهر لتجتمع الأسر والعائلات من المحيط للخليج ليعيشوا ليلة من ليالي العمر.
وعلى مدى العامين التاليين عاشت أم كلثوم تصارع المرض, وأغلب الظن أن معنوياتها لم تكن على ما يرام, وفي 3 فبراير 1975 سلمت الروح.
سألت مدير متحف أم كلثوم عن المقتنيات فقال: إنه منذ عام 1994م بدأ الاتصال بأسرتها لجمع مقتنياتها, وكان الأمر صعبا في البداية لأن الأسرة لم تكن مقتنعة بجدية المسعى لإقامة المتحف, وعندما بدأت الخطوات العملية وأدركوا أننا بصدد إقامة متحف بالفعل, تعاونوا معنا وتبرع أفراد الأسرة بكل المقتنيات الموجودة من ملابس ووثائق وأوسمة ونياشين وتسجيلات نادرة... لقد تبرعوا بكل هذا عن طيب خاطر وبتعاون كامل.
وعندما قلت له: ما ألاحظه بالفعل هو المقتنيات الهزيلة ومساحة المتحف المحدودة الضيقة التي لا تتناسب مع حجم أم كلثوم في قلوب الملايين.
أجاب:
نعم... المساحة قليلة لكن هذا ما توافر, والأهم أن الموقع لائق واختارته وزارة الثقافة لأنه يشرف على النيل مباشرة. النيل الذي غَنَّتْ له أم كلثوم رائعتي شوقي وبيرم التونسي, وأم كلثوم نفسها كانت عاشقة للنيل, وعاشت عمرها كله في فيلتها بالزمالك المقامة على النيل أيضا. أضف إلى هذا أن المكان الحالي يضم قصر المانسترلي وهو أثر تاريخي مهم, ومقياس النيل أقدم أثر إسلامي بعد جامع عمرو بن العاص.
يضم المتحف مكتبة تحتوي على كمية من الوثائق والكتب أغلبها تم إدخاله إلى الكمبيوتر ليستخدمه الباحثون. والوثائق التي يملكها المتحف تصحح الكثير من المعلومات التي كانت قد أصبحت حقائق راسخة على مدى قرن من الغناء.
شدو على موج
وأنا أغادر المتحف, قلت لنفسي: صحيح أنه على النيل الذي طالما عشقته أم كلثوم, وصحيح أيضا أنه أقل كثيرا من قامتها ودورها وتأثيرها, لأم كلثوم حقوق علينا, أقلّها متحف لتخليد فنها, والمتحف - بالنسبة لفنانة بحجمها - يجب أن يكون مركز إشعاع ثقافي وفني وموسيقي يضيف ويطور مثلما يؤصل ويحفظ, بل ويقيم الندوات والمؤتمرات وحلقات البحث, ولعلي أتجاسر وأطالب بأن يتولى تدريب الأجيال الجديدة من الموهوبين وتكوين فرق تنتسب لها ولتراثها الخالد.
لقد كانت أم كلثوم وحدها عصرا كاملا, عبّرت عنه بأغانيها وشخصيتها وإخلاصها اللامحدود لفنها, لذلك منحتها الملايين في أرجاء الأرض العربية عشقا ندر أن يحصل عليه الكثيرون.

بشير عياد
17/08/2007, 01h17
ملاحظة سريعة :
دفن أمّ كلثوم لم يكن يوم 3 فبراير 1975 ، بل كان يوم وفاتها ، وكانت الوفاة مساء ، أما الجنازة فكانت صباح الخامس من فبراير
يرحمها الله