المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأندلس تغني على أنغام زرياب


sultaniran
12/03/2007, 11h49
كان انتقال زرياب ,, من بغداد ( العباسية ) إلى قرطبة ( الأموية ) , نقطة تحول بالغة الأهمية في تاريخ الحضارة الإسلامية في الأندلس , لأن ابتكاراته وتجديداته لم تقتصر على الغناء والموسيقى , ولكنها امتدت لتشمل حياة المجتمع الأندلسي .

زرياب هو أبو الحسن علي بن نافع , واشتهر بلقب زرياب وهو اسم الطير الأسود ذي الصوت الرخيم . ويقال أنه لقب بذلك من أجل سواد لونه وفصاحة لسانه وحلاوة شمائله . أما كلمة زرياب فهي فارسية الأصل وتعني ماء الذهب . ولد زرياب في بغداد عام 161ه/ 777م. ويبدو أن والده كان من الوافدين إلى بغداد , وكان زرياب من موالي الخليفة العباسي المهدي (ت 169ه/ 785م) . تعلم زرياب فن الغناء والموسيقى في بغداد على يد إسحاق الموصلي (ت 235ه/850م) ,الذي كان صاحب مدرسة للغناء والموسيقى في العاصمة العباسية , والموسيقار المفضل لدى الخليفة هارون الرشيد (ت 193ه/ 809م) . وإذا كان زرياب قد أخذ في بداية حياته الفنية بعض ألحان أستاذه ووضعها في أغان جديدة له مع شي من التغير والتطوير, فأنه سرعان ما انطلق مستقلا في ألحانه و أغانيه, بحيث لم تمض سنوات قليله حتى أتقن صناعة الغناء والموسيقى أتقانا فاق فيه أستاّذه,لا سيما أن الكثير من عناصر النبوغ والإبداع كانت متوافرة في شخصية.
في بلاط الرشيد
شاءت الظروف أن يطلب الخليفة هارون الرشيد من إسحاق الموصلي أن يرشح له مغنيا بارعا,فذكر له تلميذه زرياب, وقال انه قد أتقن الغناء والموسيقى على يديه ويتوقع إن يكون له شأن كبير في مقبل الأيام. فطلب الرشيد منه أن يصطحبه معه إلى مجلسه وبالفعل حضر زرياب برفقة أستاذه إلى مجلس الخليفة. ودار حوار بين الرشيد وزرياب حول بعض المسائل الفنية ثم سمع الحانة وغنائه فأعجب بيه إعجابا شديدا بل دهش بما انطوت عليه شخصيته من عقل من منطق ومواهب فنية. ويحسن بنا إن نقل مقطعات من هذا الحوار كما ورد في احد المصادر الأصلية " ..فلما كلمه الرشيد (أي كلم زرياب) أعرب عن نفسه بأحسن منطق وأوجز خطاب وسأله عن معرفته بالغناء فقال زرياب "نعم أحسن منه ما يحسنه الناس وأكثر ما أحسنه ليحسنونه مما لا يحسن ألا عندك ولا يدخر إلا لك فان أذنت غنيتك مالم تسمعه اذن قبلك"فأمر الرشيد عندئذ بجلب عود أستاذه أسحاق ولكن زرياب رفض العزف عليه وقال "لي عود نحته بيدي وأرهفته بأحكامي ولا ارتضي غيره وهو بالباب فليأذن لي أمير المؤمنين في استدعائه فأمر الرشيد بإدخاله إليه فلما تأمل الرشيد عود زرياب وكان شبيها بعود أسحاق فقال له الرشيد ما منعك ان تستعمل عود أستاذك, فقال زرياب أن كان مولاي بغناء أستاري غنيته بعوده وأن كان يرغب في غنائي فلابد لي من عودي فقال له الرشيد ما أراهما ألا واحدا وهنا شرح زرياب للخليفة الفروق بين عوده وعود أستاذه منها مثلا : أن وزن عوده يساوي ثلث وزن عود أستاذه وان بعض أوتار عوده من الحرير وبعضها من مصران شبل الاسد فالوتران السفليان صنعهما من امعاء شبل الاسد والعلويان من صنعهما من الحرير مما يجعل ترانيم عوده اكثر صفاء ووضوحا اضعاف الاوتار الخرى واكسب اوتار فتعجب الرشيد من وصف زرياب لعوده ثم امره بالغناء فاندفع يغنيه قصيدة من تأليفه يمدح فيها الخليفه وبعد ان اتم زرياب النوبه طار الخليفة طربا ثم سال الخليفة اسحاق الموصلي معاتبا:لماذ اخفى علي هذا المغني ولم يقدمه له حتى الان فببر اسحاق له ذلك بقوله ان زرياب نفسه كان قد اخفى تلك المواهب عنه ثم طلب الرشيد من اسحاق ان يهتم بزرياب.
الأستاذ الغاضب .. والتلميذ الهارب
بعد أن اكتشف الخليفة عبقرية زرياب الموسيقية، وأبدى إعجابه الشديد به، سُقِط في يد إسحاق، وهاج به من داء الحسد وغلّب صبرَه ، فخلا بزرياب وقال له:
"ياعلي، إن الحسد أقدم الأدواء وأدواها، والدنيا فَتّانة، والشركة في الصناعة عداوة، لا حيلة في حسمها، وقد مكرتَ بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلوّ طبقتك، وقصدتَ منفعتك، فإذا أنا قد أتيتُ نفسي من مأمنها، وعن قليل تسقط منزلتي، وترتقي أنت فوقي، وهذا ما لا أصاحبك عليه ولو أنك ولدي، ولولا رعيي لذمة تربيتك لما قدّمت شيئاً على أن أُذهِب نفسك، يكون في ذلك ما كان، فتخيّر في اثنتين لا بد لك منهما: إما أن تذهب عني في الأرض العريضة، لا أسمع لك خبراً بعد أن تعطيني على ذلك الأيمان الموثقة، وأساعدك لذلك بما تريده من مال وغيره. وإما أن تقيم على كرهي ورغمي، وتكون السبب في سقوط شأني عند الخليفة، فخذ الآن حذرك مني، فلست والله أُبقي عليك، ولا أدع اغتيالك، باذلاً في ذلك بدني ومالي، فاقضِ قضاءك".
فكر زرياب في التهديد الذي وجّهه إليه أستاذه، إنه تهديد صريح بالقتل غيلة، وماذا يمكن أن يفعله شاب فقير مغمور في مواجهة رجل كثير المال، عريض الجاه، واسع النفوذ، يماثل في أيامنا هذه ما يمكن أن يسمّى وزير الثقافة والفن؟!
واختار زرياب الفرار، وفضّل النجاة بنفسه من الاغتيال، فخرج من بغداد لوقته، وأعانه إسحاق على ذلك سريعاً بمال وفير، فرحل ومضى متوجهاً نحو بلاد المغرب، واستراح قلب إسحاق.
وتذكّر الخليفة الرشيد زرياب بعد فراغه من أمور كانت تشغله، فأمر إسحاق بإحضاره، فقال له إسحاق:
"ومَنْ لي به يا أمير المؤمنين؟! ذاك غلام مجنون، يزعم أن الجن تكلّمه وتطارحه ما يُزهى به من غنائه، فما يرى في الدنيا من يَعْدِله، ما هو إلاّ أن أبطأتْ عليه جائزة أمير المؤمنين وترْك استعادته، فقدّر التقصير به والتهوين بصناعته، فرحل مُغاضباً ذاهباً على وجهه مستخفياً عني، وقد صنع الله تعالى خيراً في ذلك لأمير المؤمنين، فإنه كان به لَمَم [جنون] يغشاه ويفرط خبطه، فيفزع من رآه".
فسكن الرشيد إلى قول إسحاق، وقال:
"على ما كان به فقد فاتنا منه سرور كثير".

ربما كان الترحيب الأميريين الأمويين لزرياب, الحكم وابنه عبدالرحمن, وإلحاحه الشديد عليه للقدوم للأندلس, يدل على أن شهرته الفنية كانت قد سبقته الى تلك البلاد,كما يعكس رغبة بني اومية في قرطبة في أن يكون بينهم فنان بهذه الكفاءة لمنافسة إسحاق الموصلي فنان بني العباس في بغداد. ويكسف هذا الترحيب, من ناحية أخرى, خلو البلاط في قرطبة آنذاك من المغنيين والموسيقيين من الكفاءة والمقدرة, والدليل على ذلك ان المصادر تشير الى ان من دخل الاندلس من المغنيين هما: علون وزرقون, وكان ذلك في ايام الحكم بن هاشم نفسه(796-822م), ولكن بمجرد وصول زرياب تخلى الامير عبدالرحمن عنهما"لغلبة زرياب عليه وانتزاعه قصر السبق منهما". الحقيقة كان هناك عدد من المغنيين, امثال منصور المذكور, ولكن من الثابت ان هناك فراغا حقيقيا في ميدان الفن الاصيل, سواء في الغناء او الموسيقى, قبل هذا العملاق الكبير الى قرطبة.

وكان زرياب إذا أراد أن يعلّم تلميذاً أمره بالقعود على وسادة مدوّرة، فإن كان ليّن الصوت أمره أن يشد على بطنه عمامة؛ لأن ذلك يقوي الصوت، فلا يجد متسعاً في الجوف عند الخروج من الفم. فإن كان لا يقدر على أن يفتح فاه، أو كانت عادته أن يضمّ أسنانه عند النطق، راضه بأن يدخل في فيه قطعة خشب عرضها ثلاث أصابع، يُبيتها في فمه ليالي حتى ينفرج فكاه.

اذا اراد ان يختبر صوت احد التلاميذ فيما اذا كان موهوبا او غير موهوب يأمره بان يصيح باعلى صوته "يا حجان" او يصيح "آه" ويمد بها صوته فاذا سمع صوته بهما صافيا قويا مؤديا لا يعتريه غنة ولا حبسة ولا ضيق نفس عرف انه سوف ينجب اي سيكون مغنيا لامعا ويشير بتعليمه وان وجده خلاف ذلك ابعده .
وقد اثبتت الدراسات الحديثة ان معهد زرياب لم يكن حكرا على الطلاب العرب والمسلمين وانما كان يستقبل طلابا من دول اوربية عديدة مثل فرنسا والمانيا كانوا قد وفدوا الى قرطبة للتعلم وقد ازدادة اعدادهم تدريجيا ثم عادوا الى بلادهم وقد حملوا معهم من علوم الموسيقى العربية وفنونها والالاتها ما يعد الاساس الذي قامت عليه النهضة الفنية في اوربا فيما استهل التاريخ الحديث. ويهمنا ان نؤكد على ان هذا المعهد ظل قائما في قرطبة حتى سقوط الخلافة الاموية في الاندلس.
لم يقتصر دور زرياب على نقل المموسيقى والاغاني الشرقية من بغداد الى الاندلس وما تحمله في ثناياها من عناصر فارسية ورومية فحسب وانما احدث ثورة في عالم الغناء والموسيقى بتجديداته وابتكاراته سوائا في الالات الموسيقية او في الغناء والتلحين.

ابتكار الموشحات
لقد شكلت ابتكارات زرياب وابداعاته الفنية منها والاجتماعية محطة حاسمة في تاريخ الحضارة العربية في الاندلس وهو الذي وضع اصول التراذ الموسيقي والغنائي الاندلسي وخلق للموسيقى والموسيقيين مكانة محترمة في المجتمع الاندلسي واقام اول معهد لتعليم الموسيقى في الغرب الاسلامي وهو الذي ابتكر الاسس الفنية التي بنية عليها الموشحات الاندلسية ونقل المجتمع الاندلسي من حياة البداوة الى حياة الحظارة فالعادات التي ادخلها غدت مقياسا للحضارة والتقدم والفنون التي ابدعها نشرت التفاؤل والفرح في حياة الناس ولم يقتصر انتشار تلااث زرياب على الاندلس وحدها وانما امتد الى المغرب العربي جنوبا والغرب الاوربي شمالا كما ظل هذا التراث حيا وفاعلا تتناقله الاجيال حتى سقوط غرناطة في يد الاسبان 1492م
اما تأثير زرياب في الغرب الأوروبي فيصعب الإحاطة به في هذه العجالة ولكن يكفي ان نشير الى انه كان اول من ادخل العود ذو الاوتار الخمسة إلى الأندلس ومنها انتقل إلى بلدان الغرب الأوربي