المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة قصيرة بعنوان ( البديل)


زهرُ الربيع
04/09/2017, 23h47
البديــــــل

من مجموعتي القصصية(نوارس هائمة)
أوقـفَ السيارة- تماماَ كما يفعل كلّ ليلةِ- بعد سهرةِ طويلةِ يغيبُ فيها عن أسرتهِ وعن وعيه...ويوغل في رحلة مُجونٍ وسرور مؤقت .
ولكنه هذه المرة لم يـرَ أحداً في الحــيّ ، ولـم يسمـع صوتاً لأي مخلوق ولم يبصر دارا حتى لو كانت مهجورة...
فبدأ الاستغراب يخترق حُجُـب السكر الكثيفة ويتسلـل إلى رأسهِ الثقيـل ، وأخـذت تساؤلاتٌ متراقصة تطوف ذهنـهُ المخمــور.
أيــنَ البيوت .. المدينةُ وسكانهـا ؟ هل تحــوّل كل ذلك إلى قفــرٍ على حين غفلة ؟
فتـح بابَ السيارة ولفحتــهُ دفقــــــــةٌ من الريــحِ الممـزوج بالضباب والظـلام....
راح يتجــوّلُ حــــــولَ سيارتهِ الجاثمة كوحش داهمهُ التعــــــب وسـط صحــراء كانـت باعتقـــــــــادهِ مدينـة.... لا يسمع ولا يرى فيهـا إلا نجوما في أعمـاق السمـاء تتألّـــــــــق بعيـدا جدا وتتهاـــــمسُ بلغةٍ لا يفهمهــا ، وتختفي إذا تكاثف الضباب .
لابـد أن سـاحرة شريرة أحالت هذه المدينة الجميلة يَبابـاً يخلـو حتى من الطيـر والحيوان وأصواتهـا 0
ما الذي جرى ؟ هل يحلم ؟ فرك عينيه00 أخرج قنينة مـاء بارد من صندوق السيـارة وغسل وجهَـــــــــه , ودعـك فروة رأسـه 00 شعر كـأن غشـاوة سوداء أزيحت عن وجهــه 00 لكن السيـارة ما زالت ترقـد وسـط الظلام الموحش 00 فـرك جبهتـه بقوة
( هل تهـت عن الطريق ؟ ولكنـي لم أتـُه يوما 00 اعرف الطريــق جيدا00 قد أكون مجنونا 00 ربما )
فتح الباب أدار المحرك 00 انطلـق دون هدىً , لا يدري إلى أين....؟
كانـت السيـارة تخترق الرمال وتزيـغ يمينـاً و شمالا فلـم يتمكن من السيـر بسرعـــة 0
لمـح شبحا يسـدّ الطريـق عليه 00 يرتدي ملابسَ بيضاءَ كالثلـج ولا يظهـرُ منه الا وجهـه اقترب منه فلـم يتحرك كاد يدوسه ولم يتحرك 00 ضغط على المنبّـه , فلم يصـدرْ أي صوتٍ , بدأ الفزع يعبـثُ بقلبـه توقـف00 انطفأ المحرك رغما عنه و بدأ جسده يرتعش والشبـح لم يزل في مكانه
( ربما هو كتلة كثيفة من الضباب وليس شبحا) ...
لمح قسمـاتِ امرأة00
امرأة جميلة وشابة داخـل هذا الجلبـاب الذي يشبـه الكفــن 0
بدأ السُكـرُ يعود إلى رأسـهِ 00 ولكنه سكر ليس مرعب له به عهــدُ , توقف وجِلاً خائفـا من كل ما يحيط بـه00
أنزلته الفتاة , ليس بإمكانه أن يشاهدها فيتأكد من جمالهـا 00 ولو شاهدهـا فلا يستطيع التمييز ..أنى لـه ذلك وكل فرائصـِـهِ ترتعـد فــــــــــــرَقا ؟
نزل طائعا ويده في يدهـا 00 وليس ثمةَ غيرهمـا أبدا 00 صحراء عريضة 00 يتوغل فيها الليـلُ والعدم إلى حدود لم يكن يحلـم بها حتى في كوابيسه 0
ظل يمشي متعثرا وهو لا يملـك لنفسه نفعا ولا ضرا , حتى بلغا مكانـا فيه أثرُ للحيـاة 00 أو للموت , ولكنها آثــارٌ للإنسانِ في إحدى حالاتـــِهِ 0
قال :ـ هذه مقبرة !! ما الذي نفعـل هنا فيهــا ؟
أول مرة يسمع صوتها حين ردت عليه :ـ ستبيت هنا الليلـة 0
- أبيــــت !!؟
- اجل , وقد لا تخرج إلى الأبد 00 أو إلى أن ينفخ في الصـور 0
-هذا فظيــع 0
- ليس بعـد , سترى ما هو أفظـع 0
وراحـت تقتاده في مسالك المقبرةِ الموحشـة مغلوبـا على أمره , وقد يُخيّــل لـه انه يسمع أصوات استغاثـة أو أنيـن أو أصوات حيوانات تتنافـسُ على رزقهـا الذي تجده جاهزا في هذا المكـان 00
أراد أن يُقنع نفسـَه بأنه يحلـم وسينتهي الحلـم بعد قليـل, وسيجد نفسـه ينام في سريره الوثير جنب زوجتـه. لكنه لا يبدو أنه حلم ، ولم يكن كذلك...
فعـل كل ما من شأنـِهِ أن يتبيّـن ما إذا كان حلما كابوسا هلوسة من أي نوع ، أو هو حقيقة 0 وصلَت ْبه إلى قبـر محفـورٍ حديثا ـ وقالـت لـه:
- هذا قبــرك 0
- قبــري ! ؟
- نعم أمستغـربٌ أنت ؟
- ولكني حي ارزق 0
- يُـخيل إليك فقـط 0
- كل ما في يؤكد ذلك
-أشياء كثيرة ماتت فيك ولعلهــا هي وجوه الاختلاف بين الحي والميت 0
أخـذ يصرخ :ـ أنا حي فكيـف تدفنيني ؟
- ليس بيدي 00 دفنـتُ الكثيرين غيرك , وهم يـدّعون ما تدعي 0
-هذا ظلـم 0
- سمـهِ ما شئـت
- أنت تستضعفيننـي وتفعلين بي ما تريديـن 0
- ربمـا 0
- لماذا يا الهي ما الذي فعلتـه ؟
- اسـأل نفسـك 0
- أنا اسأل ربي 00 لم أسألك.. أنت بلا قلــب 0
- صدقـت 0
- اتركيني 00 إني أكرهك 00 ولو أجد فرصة لقتلـك لفعلــت 0
- ليس بإمكانك 00 جـربْ إن شئتَ , أنا متّ مقتولـة 0
-من أنت قولي بحق من تقدسيـن ؟
- سأقول 00 ولكن ليس قبل أن تدرك انـك ميـت تستحق هذا المكـان 0
- كيــف ؟
- اسمع 00 أنتم الذين تعتقـدون إنكم أحيـاء 00 في الحقيقـة أنتم أموات 00 بل أنتـم أكثـرُ إيغالا
في الموتِ مـن الموتى أنفسهــم .
أما نحن الموتى 00 سمعـت؟ 00 الموتـى 00 أنا ميتـة00 أنا شبـح 00 أنا بديلك ستكون في مكاني وأذهب هناك مكانك 0
نحن ـ يا هذا ـ أهل الأرض وأنتم ضيـوف عليها سترحلون متى تشـاء القدرة0
-أي قدرة ؟
- سيشتـدّ عذابـك لأنك تجهل القـدرة التي تعرفها البهيمـة والحشـرة والطائـر وكل مخلـوق00 عدا الإنسـان- بعض الناس- تنكّـر لها 00 وأنكرها ونصب نفسه سلطانا بدلا عنها 0
- لـم أفهــــمْ 0
-تريد أن تفهم متأخرا 00 كـان عليك أن تفهم وأنت حـي 0
- والآن ؟
- أنت ميت 00 نحن الأحياء 00 نحن أحق منكم بهذه الحياة 00 سنصلح ما أفسدتموه 00 ونعود إلى حياتنـا الأزليـة التي ليس لها غد وليس فيها سلطان جائر أو عادل الا السلطان الجبـار نفسه , وليس لها أمس 00 تتداخـل أيامُها لتصبح يوما واحدا جميـلا أو شنيعـا حســب ما آتينـاه من عمل في دنياكـم الزائفـة الزائلـة 0
بعد أن بدأ الخوف يُزايلُــــــــه 00 واخذ يسلـم بالأمر الواقع 00 تأملهـا 00 نظر إلى وجههـا 00 لم يـرَ وجهـاً تحيطـــــــــه هالـةٌ من النور كوجهها الأبيض المستدير00 الذي يختلط اختلاطاً غريبـا بثيابها البيضـاء الناصعة, فتاة حسناء حسنا مجهولا ليس له تفسيـر, فهو ـ على انه لم يـرَ شكلا بهذه الروعـــة و هذا البهاء ـ لم يمِـلْ إليها فهي الدفّـــــانـة أو الميتة التي تريـد أن تأخـذ مكانه في الحياة ويأخذ مكانها في المقبــرة.
قال لها بتوسـل :ـ لكن لماذا أنا بالذات ؟
كأنها لم تسمعه , قالت :ـ سأتركـك هنا وارحـل 00 فصحبي هناك في انتظـاري
-لا بالله عليك لا تتركينـي هنا نهبـاً للوحشة والخــوف 0
- لا تخـفْ , انزل جيـدا في القبر00 انه قبري وقد رتبتـــهُ لك جيدا 00 غط جسـدك جيـدا بالتراب
- أنا لسـتُ ميتـا 0
-كلا انك ميت وهم ميتون 00 أنت ميت وهم ميتون 000
واختفت 0
بقي وحيدا 00 هذه الميتة الحية قد يجد فيها أنيسـاً بصورةٍ ما , ولكنه الآن بقي وحيدا تماما لا يسمـع الا ما ينسجه خياله الخاضع للخوف والفـزع 00 أصوات الموتى يئنون 00 يستغيثون 00 والحيوانات تجد طعامــا فتتكالـبُ عليه , بعد قليل سيصبحُ طعاما طازجـا لهـا 00
الريح تعصف وتسيّــر حبـات المطـر حسب اتجاههـا 00 والبـردُ بدأ يُرجـفُ جسـده الذي كان يرتجــفُ دونَ بـرد00
اجتمعت عليه مخـاوف الدهـر كلها 00 وزاده رعبـاً انـه بين الأموات , وهم مخيفـون على أيـةِ حال 0 سمـعَ صوت حفيـفٍ يقتربُ منه00 ليس وقـعَ أقـدام , بل هو اقـرب إلى الخشخشة 00 اقتـربَ الصـوتُ هــمّ بالخروج , ولكـنْ....
الفتـاة أوصته بعـدم الخروج فقد يسقط في قبـرٍ آخر ويشارك موتـى آخريـن مأواهـم 0 تبيـّن له إن الصوت ضربه على وجهـه فقفز مرعوبا إلى أعلى وسقط00 ولم يجد سوى بقايا كيس كانـت الريح تعبث به 0
قبل أن تذهب الفتـاة قالـت له:ـ إياك أن تخرج من القبـر مهما سمعـتَ أو رأيت 00فهو مصيـرك, ولا تحاول الخروج على القـدرة 00واعلم إن كل من تعرف هو ميـت00 وهو مدفـون في مكـان ما من هذه الأرض 00
ونحن فقط الأحياء الذين يجـب أن يعيشـوا ليصلحوا ما أفسدتم , وليقومـوا بما لـم تقوموا به , لخوفٍ فيكـم أو لأنكـم رضيتـم بحياتكـم واعتقدتـم إنها هـي الأولـى والأخـرى كما أوحـت إليكم شياطينكـم فعبدتموهـا وعبدتم الشياطيـن ولم تتمردوا عليهم ولم تثـأروا لأنفسكـم التي سُـحقـت بدرجـة أقصى من المـوتِ نفسه00
إذن جربوا الذي منه تخافـون 00 لابد لكـم أن تعيشـوا كما عشنـا وتخافوا مما خفنـا وبعدهـا فأن القـدرة
خليقـةٌ بأن تسـوّي بين النـاس وتنزلهـم منازلهــم التي يستحقـون 00
عنـد الصبـــاح :
(انتشـر خبـرُ مفـاده : إن رجلا فاقـد الوعي وُجــد في المقبـرة عليـه جلبابٌ أبيض يشبـه الكفــن... )