المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عن الغناء "الفْرَانْكُو عربي"..."اليهودي - العربي"...في الجزائر


عثمان دلباني
04/02/2017, 18h10
عن الغناء "الفْرَانْكُو عربي"..."اليهودي - العربي"...في الجزائر
"....كان الغناء الذي مارسه اليهود في الجزائر غناء عربيا شكلا ومضمونا قبل حلول الاستعمار الفرنسي بالبلاد في 1830م، لكن سياسة الفَرْنَسَة التي طُبِّقت بالقوة وسياسة سلخ الطائفة اليهودية عن بقية الأهالي المسلمين بموجب مرسوم كريميو الشهير الذي حوَّل اليهود إلى فرنسيين، أفْضَتَا إلى إفراز تطورات ثقافية جديدة في المجتمع الجزائري. وبرزت هذه التطورات بشكل أسرع في أوساط الطائفة اليهودية ما بين الحربين العالميتين، لأن المسلمين رفضوا بشكل عام رفضا قاطعا الخضوع لسياسة الإدماج واختاروا المقاومة حتى في المجال الثقافي رغم الثمن الباهظ الذي دفعوه لقاء ذلك.
وفيما تمسكتْ النُّخب اليهودية التقليدية ونسبة هامة من الطائفة العبرية المحافظة في المراحل الأولى للاحتلال الفرنسي للجزائر بجذورها الجزائرية بجميع أبعادها الثقافية، انجرفت النخب الجديدة وسط تيار الثقافة الفرنسية الاستعمارية. وسرعان ما انعكس ذلك على الطرب والغناء في أوساط الطائفة الموسوية بتحولات تدريجية طرأت على أساليب الغناء. وطالت هذه التحولات حتى شرائح من المسلمين الذين كانوا يقيمون في عدد من المناطق الحضرية المختلطة الأعراق والطوائف الدينية والثقافات واللغات .
فأدت تأثيرات الثقافة الفرنسية شيئا فشيئا إلى شيوع أغان لا تتوانى عن إدخال بعض الكلمات الفرنسية على نصوصها العربية، وتطورتْ منذ النصف الأول من القرن 20م إلى تطعيمِ الغناء العربي المحلي بأنغامٍ وإيقاعات وآلات موسيقية غربية أو أفرو – كوبية كانت في ذرْوة ازدهارها آنذاك في كامل أوروبا والقارة الأمريكية.
في الوقت ذاته، برزت ظاهرة أخرى تتمثل في إدخال ألفاظ عربية جزائرية على نوع معين من الأغاني الفرنسية والتي كانت في أغلبها فكاهية وساخرة.
في هذه الأجواء المزدوجة الثقافة، انطلقت في الجزائر ظاهرة الاقتباس الغنائي من المنوعات الأورو – أمريكية إلى الأغاني الناطقة بالعربية أو بخليط لغوي عربي – فرنسي . اقتباسٌ لغوي وموسيقي أنتج نوعا جديدا من الأغاني الخفيفة الجزائرية محلية الهوية. كما أنتج نوعا خفيفا آخر مُستنسخا من الأغاني – الموضة التي كانت تُطرِب وتُرقِص مئات ملايين البشر عبْر العالم. مما أدى إلى ميلاد أغانٍ عالمية مُقتبَسة في صيغة محلية مزدوجة الشخصية النغمية لم تكن أقل نجاحا في الجزائر من غيرها من البلدان على غرار "بَامْبِينُو" للفنان الإيطالي الكبير تِينُو رُوسِي (Tino Rossi) والتي صَنَعَتْ بها الفنانةُ الإسكندرانية المصرية – الفرنسية داليدا (Dalida) مجْدَها هي الأخرى في مهجرِها الباريسي.
نسخة داليدا:
https://www.youtube.com/watch?v=nSmpbGHe8oE
نسخة من أحد الأفلام الفرنسية قبل بضعة أعوام:
https://www.youtube.com/watch?v=xGKowUNYrKA
نسخة ليلي بونيش:
https://www.youtube.com/watch?v=f6W6b08iu0w
هذا اللون الجديد من الغناء المهجَّن في قوالب محلية، لُغةً وأنغامًا، والذي بدا آنذاك تجديديا أو "عصريا"، سُمِّي حينها مجازيا "الغناء الفْرَنْكُو – عربي" أيْ الناطق بالفرنسية والعربية على حدٍّ سواء1.
وبقيتْ هذه التسمية ساريةَ المفعول إلى غاية بداية الثمانينيات من القرن 20م عندما ارتأتْ جهاتٌ مَا استبدالَ هذه التسمية بـ "الغناء اليهودي – العربي" وهي تسمية لا تخلو من الدلالات السياسية المرتبطة بالصراع العربي – الصهيوني في الشرق الأوسط وفَرْضَها فرضًا في مختلف الوسائط الإعلامية. فتراجع استعمالُ مفهوم "الفرنكو – عربي" تدريجيا حتى أصبح يبدو في الوقت الحالي مجرد طلل من الأطلال اللغوية الموسيقية.
دفع التلاقي، الذي حدث بين عدة لغات داخل الفضاء الجغرافي – الاجتماعي – الثقافي الجزائري منذ القرن 19م، إلى ظهور صيغة لغوية توافقية تجسدت في الهوية اللغوية آنذاك للأغنية الجزائرية الجديدة. ووَجَدَتْ وفْقَ هذا التوافق كلُّ لغة، وخاصة اللغة الفرنسية التي كانت لغة المُستعمِر واللغة الإسبانية في مرتبة ثانية، صدًى يتناسب مع حجمها داخل المجتمع الجزائري بمختلف عناصره الديمغرافية المحلية والأجنبية الأوربية.
شاعر مدينة سِيدِي بَلْعَبَّاسْ السَّاخر، المرحوم عزَّة عبد القادر،" أكَّد أن شاعرا مثل أحمد وَلْدْ الزِّينْ "أدخل على بعض أشعاره أبياتا كاملة باللغة الإسبانية"، على حدِّ تعبيرِ الباحث الحاج الملياني، وهي أبيات تتحدث من خلالها الشخصيات الإسبانية الموجودة في قصائده بلغتها الأم...
وفي ظل هذا الاحتكاك، ظهرت الأغنية الناطقة بالـ "سَّابير" (Sabir) الذي هو خليط لغوي عربي – فرنسي طغتْ عليه اللغةُ الفرنسية وكان سائدا أكثر في الأوساط الأوروبية التي لا تحسن اللغة العربية، قبل أن يتطور هذا النوع لاحقا إلى الأغنية الفرانكو – عربية التي تطغى عليها اللغة العربية، وذلك بأصوات الفنان الفكاهي الشهير رشيد القسنطيني وهامل واليهودي الوهراني المْعَلَّمْ رُورُو ومحيي الدين باش طارزي وغيرهم.
كما تحوَّلتْ أغنيةُ السَّابِيرْ إلى صيغة الأغنية الفرانكو – عربية التي كان من بين مؤلفيها في مدينة الجزائر اليهودي إيدمون يافيل، وكان علاَّلُو مِن بين الذين أدوها ابتداءً من سنوات 1920م-1922م.
ومن أغاني السَّابير المعروفة خلال النصف الأول من القرن 20م أغنية رشيد القسنطيني Mon Gourbi (كُوخِي) التي أصدرها عند دار La voix de son Maitre الفرنسية لنشر الموسيقى سنة 1933م، وأغنية Mademoiselle Simone (الآنسة سيمون) التي أصدرها محيي الدين باش طارزي عند نفس الناشر في 1931م، وأغنية "دِيدِي يَا سِيرِي" (Dédé Chéri) التي كتب كلماتها ولحَّنها محيي الدين باش طارزي وأدتها مطربة تُدعى عائشة وأصدرتها دار بَاسِيفِيكْ (Pacific) سنة 1949م. كما عُرفتْ أغنية أخرى ناطقة بالسَّابير سنة 1953م للفنان يوسف آوْحِيدْ عنوانها Svibli أيْ S’il vous plait (من فضلك)، وأغنية للفنان بْلُونْ بْلُونْ بعنوان Chérie c’est formidable (حبيبتي، عظيم)، بالإضافة إلى أغنيته "LA bombe atomique" (القنبلة الذرية)...
وقبل هذا الجيل، كانت أغاني "السابير" خلال النصف الثاني من القرن 19م في غالب الأحيان من تأليف كُتَّاب كلمات من الميتروبول (فرنسا). وهذه الأغنية التي تحمل عنوان: Qui veut des tapis (مَنْ يرغب في شراءِ الزَّرابي)، المنسوبة لـ: "عيسى فكاهي السَّابِيرْ" (Aissa Comique sabir)، نموذجية وتُقدِّم فكرةً أوضح عن أغنية السَّابيرْ:
Venant d’Algérie, de mon beau pays
Pour gagner ma vie je vends des tapis
Et sur ce, sur ma route je rencontre une fatma
Pour qu’elle m’écoute, je lui dis comme ça
Si tu veux venir dans mon gourbi
Arroah avec moi essayer mes tapis
Qui veut mes tapis madame
Ils sont bien jolis
J’te jure sur haq rabi
Que je gagne par khamsa soldi…
على العموم، استُخدِمتْ مثل هذه الاستعارات اللغوية من اللغة الفرنسية في الغناء الجزائري عادة على سبيل السخرية والانتقاد للاحتلال والسائرين في فلكه. ومن أشهر هذا النوع من الأغاني وأقْدمِها أغنية "الحَاجّْ غْيُّومْ" (Guillaume) التي فعلتْ فعلتَها في الأرياف الجزائرية خلال الحرب العالمية الأولى وتناقلها الناس مثلما تُتناقل ألبومات مَايْكَلْ جَاكْسُونْ وبِيُونْسِي ومَاريَّا كَارِيه اليوم. وفي نفس الفترة اشتهرت في إقليم وهران أغنية ذاعت في الأوساط النسوية الجزائرية اللواتي كن ينتظرن عودة شقيق أو أب أوخطيب أو زوج من خنادق المعارك التي كانت تدور في أوروبا الحرب العالمية الأولى واقتُبِستْ إلى اللهجة العربية الجزائرية، ومن بين أحد مقاطعها:
حَلِّي حَلِّي ذِيكْ الطّْوِيقَة (افتحي تلك النافذة الصغيرة)
اللِّي مَظْفُورَة بِالْحْوَاشِي (المُزيَّنة بظفائر من الأوشحة)
مُوَلاهَا رَاهْ فِي التّْرَانْشِي (les tranchés) (صاحبها قابع في الخنادق)
وَالرّْصَاصْ أَلْمَانِي (تحت الرصاص الألماني)
هَا مْحَايْنِي (يا محنتي)
مْشِيتْ نْسَنْيِي رَدُّونِي (signer)1 (ذهبتُ طالبًا التجنيد، رفضوني )
وفي قصيدة أخرى لشاعر جزائري مختص في الشعر الملحون يُدعى بن حرَّاث، وردتْ هذه الأبيات:
بُونْجُورْ (bonjour)، بُونْ نْوِي (bonne nuit)، طَارَايُورْ (tirailleur)، طَنْبُورْ (tambour)، مُوِزيقَاتْ (موسيقى)، غُوفَرْنُورْ (gouverneur)، بْلِيسِي (bléssé)، دَاكُورْ (d’accord)، تْرَانْشِي (tranché)، سِيمَانْ (ciment)، جِينِيرَالْ (général)، مَاجُورْ (major)، لِيسَانْسْ (l’essence)....إلخ.
كما اشتهرت أغنية شعبية أخرى ساخرة في أوساط يهود مدينة الجزائر، عنوانها "يا المُونِيدَا"، ذكرها إيدمون يافيل في أحد كُتبه خصصه للأغاني الرائجة شعبيًا خصوصا في مدينة الجزائر، ومطلعها:
الرَّجُلْ بْقَلْبُه مَنْحُورْ (الرجل منحور القلب)
وَالمْرَاة عَنْدْ الكْوَافُورْ (le coiffeur) ( والمرأة عند الحلاق)
هُوَ يْعَيَّطْ آ كِي لُو تُورْ (à qui le tour)2 ( وهو ينادي لِمَنْ الدَّوْر)
كما غنى آكلي يحياتن متأثرا بما جرى له في السجون الفرنسية خلال الثورة التحريرية التي كان أحد رجالها أغنيته الشهيرة حتى اليوم "يا المَنْفِي":
https://www.youtube.com/watch?v=DVKBelWpbzQ
https://www.youtube.com/watch?v=DkZ3VELyVXs
عْلَى الدَّخْلَة حَفّْفُو لِي الرَّاسْ، يَا المَنْفِي (بمجرد الدخول حلقوا لي رأسي، يا المنفي)
اعْطَوْا لِي زَاوْرَة وْبَايَاصْ (paillasse)، يَا المَنْفِي (أعطوني غطاءً وفراشا من التّبْن، يَا المَنْفِي)
وَالبْرِيفُو (prévot) عْلِيَّ عَسَّاسْ، يَا المَنْفِي (والحارس يراقبني، يَا المَنْفِي)
عْلَى الثّْمَانْيَة تَسْمَعْ صِيلاَنْصْ (silence)، يَا المَنْفِي (وعند الساعة الثامنة تسمع صمت رهيب، يَا المَنْفِي)
قُولُوا لأُمِّي مَا تَبْكِيشْ، يَا المَنْفِي (قولوا لأمي لا تبكي، يَا المَنْفِي)
وَلْدَكْ رَبِّي مَا يْخَلِّيهْشْ، يَا المَنْفِي... (ولن يتخلى الله عن ابنك، يَا المَنْفِي...).
بعد استقلال الجزائر، استمرت هذه التقاليد الفرنكو – عربية في الوجود ليس في الوسط الغنائي فحسب بل حتى في بنية اللغة العربية المنطوقة باللهجة الجزائرية المستعملة في التخاطب اليومي.
اشتهرت على سبيل المثال أغنية من النوع البدوي للفنان الجيلالي عَيْنْ تَادْلَسْ الذي توفي خلال تسعينيات القرن 20م، وأداها مُغني الرَّايْ غانا المغناوي، يقول فيها:
بُوكُو دُو مِيزَارْ (beaucoup de misère) وَالمْحَايَنْ (أيْ المِحَن) تُوجُورْ (toujours)
إِيْل نْيَا بَا دُو رُوبُّو (il n’ y a pas de repos) فِي هَذِي الدُّنْيَا
جُو سْوِي أُونْشِينِي (je suis enchainé) بِسْنَاسَلْ (أيْ سلاسل) لاَمُورْ (l’amour)
جُو سْوِي بَا فِيسْيُو (je suis pas vicieux) يَا هَا البْنِيَّة
كُو جُو سْوِي مَالاَدْ (que je suis malade) مَتْأَلَّمْ مَالُورُو (malheureux)
جُو بْرِي لُو بُونْدْيُو (je prie le bon dieu) يْفَرَّجْ عْليَّ...
ويستمر هذا المزج والتهجين اللغوي إلى اليوم في الجزائر كما في فرنسا في الأوساط المغتربة حيث تظهر باستمرار على ضفتي المتوسط أغاني فرنكو - عربية إلى حد أن الناس لم يعودوا يشعرون بأن لغتها تمزج بين الفرنسية والعربية ما داموا هم أنفسهم يتحدثون في لغة التخاطب اليومي بخليط فرنسي – عربي. وهذا ما تعكسه أغاني الفنان بعزيز على غرار "Malgrès tout، بْلاَدِي نَبْغِيكْ" و"أنَا اليوم je m'en fou" و"رُومِيو and جُولْيِيتْ"، على الطريقة الجزائرية، التي تستعير حتى بضع كلمات من اللغة الإنجليزية.....".
المصدر: فوزي سعد الله: يهود الجزائر، مجالس الغناء والطرب. دار قرطبة. الجزائر 2009م.