المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اغانى ام كلثوم الأكثر مبيعا فى مصر


samirazek
03/02/2015, 03h41
http://www.ahram.org.eg/Media/News/2015/2/2/2015-635585112769754765-975.jpg

رغم رحيلها منذ أربعة عقود لاتزال أغانيها الأكثر مبيعا
أم كلثوم..أسطورة الغناء النابع من أعماق جنان الخلد


كتب:محمد حبوشة + ملف خاص
الأهرام 3/3/2015

40 عاما مضت على رحيل "كوكب الشرق"، والتى غادرت دنيانا يوم الثلاثاء 3 فبراير 1975، والذى يواكب اليوم الثلاثاء أيضا 3 فبراير 2015، وعلى قدر مرور أربعة عقود من الغياب
ظلت أم كلثوم صوتا لكل العرب، يتجمعون حولها فى كل مكان، لتكون رمزا لهم، كونها امرأة استثنائية بمعنى الكلمة، و مطربة عظيمة لا مثيل لها فى العالم بأسره، وعلى الرغم من التنوع الكبير للأغنية العربية المعاصرة، وارتباطها بفنون الفيديو كليب، وإبهار التكنولوجيا الحديثة، ظل المستمع العربى وفيا لها، مرتبطا بأغانيها الوصفية والعاطفية التى تتحلى بالشجن والطرب المشبع بروح الشرق الأصيل ، وبتجلياتها الوطنية التى لا تغيب عن خاطر كل عربي.
لم يكن ما قدمته تلك الفلاحة البسيطة ابنة الدقهلية التى ولدت مع إشراقات القرن العشرين مجرد مفردات شعرية ترددها موصولة بالموسيقى فقط , بل إنها رسمت بصوتها الآسر للقلوب والعقول حياة ثقافية بكاملها، وخطت بآهاتها قلوب الملايين لترفع مستوى الذوق العربى إلى عنان السماء، محلقة كحمامة بيضاء فى الآفاق القريبة والبعيدة تسمو معها الروح التواقة للعشق تارة ، وتارة أخرى كالنسر المتمرد فى طيرانه نحو ميادين الحرية والنضال من أجل الوطن، إلى حد أن جعلتنا نفخر بشيء ما فى حياتنا المليئة بخيبات الأمل المتلاحقة والانكسارات العظمى، حيث , وهى واقفة فى شموخ غير معهود على مسرحها العظيم، مالكة الدنيا للحظات من المتعة اللانهائية، تعيد وتكرر مرات و مرات , ويتعذب الجمهور المتلذذ بألمه، وفى جملة غير متوقعة تفجر المفاجأة بقدرة صوتية خارقة , فينفجر المكان بالتصفيق، وتنهمر الدموع المتلهفة، و تتمايل الأجساد السكرى بالمتعة بتأثير قوتها المغناطيسية الجميلة.

لم تكن أم كلثوم سيدة عادية، أو مجرد مطربة عابرة فى ذاكرة الفن العالمي، بل أسطورة غنائية يصعب تكرارها فى الأمة العربية،

فصوتها الخارق للطبيعة، وحنجرتها الذهبية، ودماء الفن الأصيل التى تجرى فى عروقها جعلوا منها أسطورة لا تموت، وشمس الأصيل التى لا تغيب، وهى التى شدت على خشبات المسارح لستة عقود كاملة فى ظاهرة فنية فريدة على المستوى العالم بأسره, بمزيج من الألحان و الكلمات و الآهات التى جعلتها تتربع على عرش الذائقة العربية السليمة، بفضل مايخرج من فمها العبقري، وكأنها ألحان أسطورية آتية لتوها من أعماق جنان الخلد.

وها هى اليوم ونحن نحتفل بذكرى مرور أربعة عقود على رحليها، تظل معنا، تسكن بيوتنا وتقطن مشاعرنا، ومن فيض غنائها نستلهم أجمل قصص الحب والعشق والغرام، ومن سناها العطر نسطر أروع ملاحم الوطنية فى كل تجلياتها، وكأنها تطل برأسها من تحت التراب من حين لآخر حاملة منديلها الشهير، تمنحنا قبلة الحياة، حين تميل الدفة فى زمن انهيار الغناء الحديث، بدليل هذا الإقبال الواسع حتى الآن على سماع أغانى كوكب الشرق، والانتقال من الحالة البصرية للأغنية العربية المعاصرة إلى الحالة السمعية الخاصة التى تتحلى بالسلطنة والشجن، و كأن الزمن نفسه يقف عاجزا ً أمام سيدة الغناء العربى فينحنى لها إجلالا ً ويسمح لها بالخلود فى القمة، ولسان حالنا يردد فى صمت موحش: زمنُ أيِّ شيء هذا الذى نعيشه، ليتنا لم نعش لنقارن، أو ليتنا ولدنا فى زمن الانحدار كى نرى كلّ هذا الهبوط صعوداً، فى هذا الملف الذى يواكب الذكرى الأربعين لرحيلها ، نقترب من عوالم أم كلثوم السحرية، ونغوص فى أعماق إبداعها المقرون بجدية لا تخلو من فكاهة، ودعابة فطرية غير مصطنعة، نكشف الخفايا والأسرار ونرصد المفارقات، ونحن نقف على أعتاب زمن جيل الفتوة المصرية ننفرد بسرد تفاصيل جديدة تنشر لأول مرة
سأل الكاتب الكبير أنيس منصور الموسيقار الكبيررياض السنباطى فى أحد الحوارات بينهما: ما هو اللحن الذى ناطحك وأتعبك حتى تغلبت عليه فى النهايه؟
فرد السنباطى قائلا: ربما كان لحناً واحداً هو «الأطلال» خفت من هذه القصيده جداً، وقلت لأم كلثوم فى أثناء تلحين هذه القصيده:"يا أم كلثوم أنا خايف، وقتها كنا سويا فى العجمي، وتحديدا فى قصر الضيافه، وكانت ترد قائلة : "يا جدع إنت لك حاجات غريبة خايف من إيه ؟ عيب!، ولكنها كانت تحس باللحن وعمقه، وعلى يقين من نجاحه، أما أنا فلم يكن عندى هذا الإحساس، وأجرينا البروفات الضرورية للحن فى «شركة مصروفون» وتحدد موعد تنفيذ الغناء، والفرقة كلها حفظت اللحن بالصورة التى ترضينى وترضيها، ولكنها همست فى أذنى وقالت لى : يا رياض قلت لها: نعم ؟ قالت : لا داعى لأن أغنى هذه القصيدة فى الحفلة، وكانت الصحف قد نشرت أن أم كلثوم سوف تغنى «الأطلال»، ولما سألتها عن السبب قالت : أنا أيضاً خائفة، فالأطلال قصيدة عملاقة، ليس لأنها من تلحينك ولكن لأن كلماتها وقفة طويلة أمام الحياة كلها، الماضى والحاضر والشباب والكهولة والروح والجسد والحب والموت والقيد والحرية.
ولم تغن أم كلثوم هذه القصيدة، وبعدها بشهر تقريبا أجرينا البروفات وبكت بعنف ولم تفصح عن سر بكائها، فقلت لها: لا داعى لأن تغنى هذه القصيده أيضاَ فى الحفل القادم وسألتنى: إذن متى أغنيها ؟ فقلت : عندما تستريحين لها تماما، وسألتنى متى؟ قلت لها بعدين ثم غنتها بعد ذلك وشاء القدر أن تنجح، ولم أنم تلك الليله ولا نامت أم كلثوم ففى الثامنه صباحاً اتصلت بى أم كلثوم وقالت لى مبروك قلت لها الله يبارك فيك، واستكملت كلامها قائلة : "أنا حاسه إن جبلاً قد انزاح من فوق رأسى، وأضافت: هذه الأغنيه هى الوحيدة التى أخافتنى!".

وعن سر بكاء أم كلثوم فى هذه الأغنية، قال السنباطى: لاحظت عندما كنا نجرى البروفات أن أم كلثوم تبكى، ولاحظ الجمهور أن دموعها خانتها أكثر من مرة أثناء غناء الأغنية لأول مرة، وسألتها عن سر بكائها فقالت: إنها تذكرت الرجل الوحيد الذى أحبته، غير أن هذا الرجل الذى قالت إنه مات لم يكن وحده سبب بكائها، فهناك سبب آخر لم تتحدث عنه أقوى من كل الأسباب وهو أم كلثوم نفسها، فقد كانت فى ذلك الوقت عام 1966 تجاوزت الستين من عمرها، وتغيرت حولها الدنيا، واختفى الأصدقاء، ورحل زكريا أحمد وبيرم التونسى والقصبجي،وغيرهم، وأخذت الشيخوخة تهاجم الباقين، وبهذا كانت وهى تغنى الأطلال تقف على أطلال عصر جميل ينهار تحت قدميها، صحيح أنها ظلت تقاوم، ولكنها أصبحت وحدها فى صومعة الفن الذى ضحت من أجله بالرجل والولد، وها هى فى النهاية تنظر حولها فلا ترى إلا الأطلال، ولهذا بكت فى البروفة وخانتها دموعها حين واجهت الجمهور.

ولم تكن تلك المرة الأولى التى بكت فيها ثومة، فبعد رحيل الرئيس جمال عبدالناصر كان من المقرر أن تعود للغناء بأغنيتها الجديدة " أغدا ألقاك" فى شهر مايو عام 1971، وعندما بدأت الفرقة فى الوصلة الأولى عزفت أغنيتها الأخيرة "ودارت الأيام" التى قدمتها عام 1970، قبل وفاة عبدالناصر بشهور قليلة فلم تتمالك أعصابها وتذكرت الراحل وبكت بشدة وطلبت غلق الستار حتى تتمالك نفسها وتعود للغناء بشكل طبيعي، ويومها فسر البعض بكاءها بأنها تترحم على عصر عبدالناصر وكارهه لعصر السادات، ووصل هذا الرأى لبيت السادات، مما جعل حالة من البرود العاطفى تحدث.

مجدى نجيب يكتب:
نزق الشباب حرمنى من أدائها لأغنيتى « يا أهلا بالحب»

بقدر من الأسى على ما فات، كشف مجدى نجيب الشاعر الغنائي، والفنان التشكيلى الكبير، صاحب أغنيات " قولوا لعين الشمس" و" كامل الأوصاف" و" العيون الكواحل" " وجانى وطلب السماح" وغيرها من الروائع الغنائية التى تغنى بها عمالقة النغم، أن طيشه وغرور الشباب منعاه من التعاون مع أم كلثوم فى أغنية بعنوان " يا أهلا بالحب وموعيده/أهلا بحنانه وتنهيده".
وعن ظروف هذه الأغنية يعود بالذاكرة إلى نهاية الستينات، وبالتحديد فى شهر أبريل عام 1967 قائلا: جمعتنى جلسات عمل مع الموسيقار الكبير محمد الموجى وطلب منى كتابة أغنية لها شكل كلاسيكى وليس متحررا مثل الأغانى التى كنت أكتبها فى هذا الوقت، فعرضت عليه أغنية بعنوان " يا أهلا بالحب ومواعيده" وتحمس لها الموجى جدا، ونظرا لأن الأغنية كلاسيكية اقترح على أن تغنيها أم كلثوم ، وتحمست جدا نظرا لأنها مناسبة جدا لصوتها وأسلوبها الغنائى ، رغم أننى فى هذا الوقت لم أكن من هواة سماع أم كلثوم، وكان لدى إحساس غير مكتمل بانها من أسباب تخلف الموسيقى الشرقية، وعدم تطور الغناء كله، فقد اعترضت بصوتها الساحر سير الزمن، ويبدو أن الزمن قد أعجبه صوتها فوقف وأمسك هو الآخر المنديل وراح يهتز ولا يتحرك، كنت مؤمنا أن أغانيها يجب أن تكون أقصر بحيث تتلاءم مع عصر الطائرة والسرعة والزحام، فليس لدى أى شخص وقت يسمح له بأن يجلس أربع ساعات يستمع فيها إلى أم كلثوم.

وفى هذا الوقت جمعتنى بها جلسات عمل، وأدركت على الفور بإنها ست ذكية جدا وقوية جدا، وصاحبة رأى سديد لا يرد، ففى المقابلة الأولى بعد سماعها كلمات الأغنية طلبت منى حذف بعض الكلمات فاستجبت، وحددت لنا موعد آخر للإستماع، وفى المقابلة الثانية طلبت أيضا حذف كلمات وجمل أخرى، فقلت لها بحماس الشباب : هذه الأغنية لم تعد لى ولكنها الآن وبعد التغيير أصبحت من كلمات أم كلثوم، وتمردت على ما فعلته فى الكلمات، وغضبت وفوضت الموجى يحذف ما يريد، لكن الموجى نظرا لأنه اكتوى منها بنار التغيير فى أغنيته العاطفية الأولى لها "للصبر حدود" تضامن معى ورفض التغيير، أو حذف كلمات من الأغنية، وبالتالى لم تخرج الأغنية للنور.

وأكد صاحب " شبابيك" أنه الآن وبعد كل هذه السنوات من الخبرة والوعى والفهم ندم على عدم غناء أم كلثوم له، لأنها صوت لا يوجد شبيه له حتى الآن ولا يقارن بأحد، كما كانت ثروة ولاتزال لمصر والعالم العربي، وقال لى بحسرة : لكن ماذا تفعل يا عزيزى فى نزق الشباب، مشيرا إلى أنه حتى لا يتذكر ولا يحتفظ بكلمات هذه الأغنية بعد فشل اللقاء بينه وبين سيدة الغناء العربي.

وبعد بحث وطول تفكير من جانبى اتصلت بالملحن الموجى الصغير مستفسرا عن أغنية " يا أهلا بالحب"، وبعد بحث وتنقيب فى مقتنيات والده، عثر عليها كاملة ، ويسعدنا أن ننشر كلماتها لأول مرة أو جزء كبير منها مع العلم أن الموجى يحتفظ لديه بالأغنية كاملة وتقول كلماتها:

يا أهلا بالحب ومواعيده
أهلا بحنانه وتنهيده
أهلا بالحب اللى يقرب
ويدفى القلب المتغرب
من لمسة حلوة من إيده
نصبح أحباب
فى السكة أصحاب
والفرح ما غاب عن عنينا يا أحباب
أهلا بالحب
كتبت اسمه ع المناديل
بعتلى قلبه مع المراسيل
على شطه أنا عمرى ما قلت فى بحره آهات
ده زرعلى الورد فى كل حكاية حاجات
أيام طيرنى على جناحه
وكتير فرحنى بأفراحه
ذوقلى الدنيا بلون تانى
وادانى الضحكة اللى ناسيني
مبقتش أشوف قلبين غرباء
وياه الدنيا دى حاجة تانية
بتلاقينا ونلاقيها
النسيم بيناجى بعضه
والكلام يفرشلى ورده
والنجوم ترملنا ضحكة من بعيد
وتنادينا كل ليلة بشوق جدي
أحباب أحباب.

جدير بالذكر أن الموجى أكد أن والده وقف وساند مجدى نجيب ، وفى الوقت الذى قالت سيدة الغناء العربى لن أغنى إلا الكلمات التى أوافق عليها، رد عليها والدى قائلا : " وأنا لن ألحن إلا الكلمات التى أنفعل وأحس بها.ينها وبين السادات وحرمه السيدة جيهان السادات.


الخبراء يجمعون على عبقرية الزمن الماضى
البيئة الحاضنة سر خلود جيل أم كلثوم

http://www.ahram.org.eg/Media/News/2015/2/2/2015-635585114120872104-87.jpg

نحن لا نبكى على أطلال زمن مضى ، أو نتشدق بذكريات ماتزال راسخة فى عمق الذاكرة الحية لجموع المصريين والعرب، على جناح المتعة والشجن الذى يظل يلمع بريقه الفاتن الآخاذ يوما بعد يوم، بل نتلمس فقط نوعا من الدفء المفقود فى فن جيل مضى لكنه مازال حيا فينا ، وعلى زحمة الحياة وقسوتها وجبروت اللحظات المرة
وتلك الشاشات المخضبة بالدماء، يستطيع هذا الفن القادم من فرط إبداع الجيل الذهبى فى عصر "مصر أم كلثوم" بعذوبته أن ينتشلك بخفى حنين من قتامة المشهد، والذهاب بك إلى آفاق رومانسية ووطنية رحبة، ورغم ما تشهده الساحة من طنطنة غنائية حتما لا تشفى الصدور، بل فى أغلبها تغرد خارج السرب، وكنعيق الغربان تجوب خراب الفضاء العربى المخيف، يمكن لفن هذا الجيل أن يفتح لنا نافذة مشرعة للهروب إلى الماضى الجميل، ذلك الذى يكمن فيه الخلود مقترنا بالعبقرية والابتكار على مستوى الزمان والمكان والإنسان.
تعالوا بنا نعود قليلا إلى الوراء لنقف على أعتاب "سر خلود جيل أم كلثوم" التى لاتزال تتصدر سوق الكاسيت حتى يومنا الحالى على جناح رومانسية ووطنية زمن مضى، أو راح وانتهى.. إلى تفاصيل مابقى فى ذاكرة بعض ممن أدركتهم متعة هذا الجيل:

المعلم والصبى

فى البداية أكد المفكر السياسى الدكتور مصطفى الفقي، أن سرخلود جيل أم كلثوم يعود إلى أكثر من سبب، أولا : كان الازدحام على الفرص أقل بكثير مما يحدث الآن، بحكم عدد السكان، ولم تكن تظهر موهبة إلا إذا كانت حقيقية ومدربة ومصقولة ولديها وعى وثقافة، الآن وبسبب كثرة عدد وسائل الإعلام يمكن لموهبة بسيطة أو نصف موهوبة أن تحتل القمة وتتربع على الساحة الفنية.

ثانيا: جيل هؤلاء العمالقة فى الغناء تعلموا الطرب والألحان على أصولها على أيدى أساتذة ومعلمين كبار من الأجيال الماضية، وفى هذا الزمن من القرن الماضى كان هناك دستور يقوم عليه الإبداع قائم على فكرة "المعلم والصبي"، فكنت تجد لأم كلثوم أساتذة مثل الشيخ أبوالعلا محمد، وأحمد رامى، ومحمد القصبجي، وغيرهم، وتجد لمحمد عبدالوهاب أستاذا كبيرا ومهما مثل أمير الشعراء أحمد شوقي، هذه الفكرة نفتقدها حاليا.

ثالثا كانت البيئة الحاضنة فى الماضى سواء الثقافية أو الفنية بيئة صحية راقية تسمح بظهور المواهب ومساندتها والوقوف بجوارها، طالما كانت موهبة حقيقية، على العكس تماما من البيئة الحالية التى أصبحت تجارية بحتة، وكل الفنانين هدفهم الوحيد المال والشهرة فقط، لكن فى الماضى كان الموسيقار رياض السنباطى يتمتع بصوت جميل، وكان من الممكن أن يغنى ويصبح مطربا، لكنه كان يرى أن خلوده فى التلحين، لهذا أعطى الألحان عمره وأحترمها، وأخلص لها فكتب لنفسه الخلود فى عالم الموسيقى، وهكذا كانت باقى المواهب، لهذا كتبوا أسماءهم بحروف من نور فى سجل التاريخ، لكن الفن الحالى لا يوجد فيه هذا الخلود، لأن فننا إستهلاكيا، يتماشى مع «رتم» الحياة الآن فى كل مناطق.

زمن عبقرى

ومن جانبه يقول الشاعر الكبير العذب الرقيق فاروق جويدة، أن العبقريات فى كل تاريخ يصنعها زمانها، وليس مطلوبا من الزمن طول الوقت أن يقدم العبقريات بصفة دائمة، ويمكن أن يستريح جدا بعض الوقت، وهذه الاستراحة تمتد لسنين وسنين طويلة، فمثلا توجد حقب زمنية تقترب من الألف عام بين المتنبى و أمير الشعراء أحمد شوقي، وظهورالعبقريات مرتبط بتيارات ومواقف التقدم فى المجتمع نفسه، وقدرته على إفراز مواهب جديدة، فالتطور شامل، وظهور كل العبقريات فى القرن الماضى كان فى إطار مد سياسي، بدأ مع ثورة 1919 وصحوة الشعب المصري، ومع إنطلاقة اقتصادية مهمة، كان أبرز رجالها طلعت باشا حرب، وأيضا انطلاقة إجتماعية تتمثل فى ظهور دعوات لتحرير المرأة المصرية مثل الدعوات التى نادى بها قاسم أمين، وسلامه موسى، كل هذه عناصر تكمل بعضها بعضا.

كما كان يوجد شيئا مهما جدا فى سر خلود جيل أم كلثوم فى كل المجالات وهو التناغم بين المواهب، بمعنى أن تظهر أكثر من موهبة تكمل بعضها، فمثلا لو ظهرت أم كلثوم بمفردها بدون أحمد رامى ورياض السنباطي، ومحمد القصبجي، وزكريا أحمد، ومحمد عبدالوهاب وغيرهم، كانت خسرت كثيرا جدا، وربما لم تصبح كوكب الشرق بالمرة، ونفس الحال تحقق فى السينما، فظهرت مواهب كثيرة متنوعة فى التمثيل والتأليف والإخراج ذات زخم كبير وطابع مميز، وأيضا نفس الشئ حدث فى الفكر والأدب، فوجدنا لطفى السيد، والعقاد، وطه حسين، والمازنى، ومحمد حسنين هيكل، وقاسم أمين، وسلامه موسى، وفى الشعر البارودى، وشوقي، ثم على محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، وإبراهيم ناجي، وفى الصحافة كان هناك محمد حسنين هيكل، ومصطفى وعلى أمين، ومحمد التابعي، كل هؤلاء العباقرة كانوا يكملون بعضهم البعض، حتى غدو مثل حديقة غناء مليئة بالزهور والرياحين، لهذا كان عصرا ثريا فى كل المجالات.

الترابط الأسري

يذهب الدكتور رشاد عبداللطيف، أستاذ علم الإجتماع وتنظيم المجتمع بجامعة حلوان إلى أن سر خلود عصر أم كلثوم يرجع إلى أربعة أشياء مهمة جدا، أولها: الترابط الأسرى فى العائلات المصرية فى هذا الوقت، حيث كان لرب الأسرة احترامه ووقاره، وكان هذا العائل "من يعول" ينقل الذوق الفنى إلى أولاده بالتبعية لتأصيل عشق أم كلثوم وغيرها من رواد الفن والثقافة والسياسة، وكان جيل المستمعين على نفس القدر من الثقافة والمسئولية، وهو ماينعكس على سلوكهم، فتجدهم لا يذهبون إلى حفلات سيدة الغناء إلا وهم فى كامل زينتهم، سواء رجال أو سيدات، وكانت الشريحة البسيطة التى لا تملك ثمن تذكرة الدخول وتتجه إلى المقاهى لسماعها فى الراديو ، تجدهم فى حالة إنصات كامل لما تغنيه أم كلثوم، احتراما لمقامها وفنها الرفيع لايمارسون أى من ألعاب التسلية الموجودة فى أى مقهي.

ثانيا: حالة الاستقرار الاقتصادي، فلم يكن هناك عنف فى الحياة الأسرية والاقتصادية فى المجتمع، كما أن الأعباء الاقتصادية لم تكن حملا ثقيلا على رب الأسرة، وبالتالى كان هناك استمتاع طبيعى بالفن والثقافة.

ثالثا: كانت سيدة الغناء العربى وأقرانها يحترمون الفن، ومن يحترم شيئ ينقل هذا الاحترام إلى الطرف الآخر، فمثلا كنت لا تجد فيما يقدمونه أى نوع من الخلاعة أو الابتذال أو أى شيئ يخدش الحياء فى الأسرة أو فى المجتمع نفسه كما تغلى به الشاشات الفضائية والمحلية حاليا.

رابعا: احترام القيم الدينية والأخلاقية فى المجتمع، و من ثم عندما يكون هناك عتاب من خلال أغنية يكون عتابا رقيقا، مثل أغنية "حب أيه"، فالحبيبة فى الأغنية لم تستخدم ألفاظا خادشة أو جارحة، ولكنها انتقدت حبيبها نقدا جميلا ويحمل قدرا من الابتسام النقي، وفيها استخدم الشاعر مترادفات لغوية رائعة رددناها جميعا بدون استحياء، وكذلك الأمر فى أغنية "فات الميعاد"، عندما قالت : و" إن كان على الماضى القديم وقساه/ ستاير النسيان نزلت بقالها زمان"، هل هناك عذوبة ورقة ورقى مثل هذا؟، غير أن كثيرا من أغنيات هذا الجيل، خاصة الوطنية كانت تغذى فينا الانتماء وحب الوطن ومنها على سبيل المثال وليس الحصر: "مصر تتحدث عن نفسها" و "صورة صورة" و "محلاك يا مصري" و غيرها من روائع غنائية تعلى من شأن الإنسان.

فساد التعليم

ويتجه الدكتور هاشم بحري، أستاذ الطب النفسى جامعة الأزهر وجهة أخرى نحو النقد الإبداعى قائلا : كان التعليم قبل ثورة 1952، تعليما نقديا ابتكاريا يعتمد على الإبداع عند الشباب، ويضيف إلى هامش الحرية، وكان القائمون على مهنة التعليم فى القرن الماضى مؤهلين تأهيلا تربويا صحيحا، وبالتالى خرجوا لنا أجيالا صحيحة راقية، تعشق الثقافة والفن والأدب، حتى على المستوى الشعبى كنت تجد قدرا بسيطا من التذوق للفن والجمال، فكان الشعب كله بمختلف طبقاته يتواصل مع الفن ويحبه، وبالتالى كان الفن يسمع فى كل الأماكن والأزمنة.

وكان النشاط المدرسى فى المدارس والجامعات فى أوج إزدهاره، ومستوى التعليم الرائع هذا الذى كان يدعو إلى التفكير والخلق والإبداع لابد أن يفرز مواهب حقيقية، لكن بعد ثورة 1952 حدث تراجع كبير جدا فى التعليم، وأصبح تعليما تلقينيا قائما على الحفظ، ومن يحفظ جيدا كان ينجح ويحصل على أعلى الدرجات، أما من يفكر فكان يكتب له الرسوب، وامتهن مهنة التدريس بالمدارس بمراحلها المختلف خريجى كلية التجارة والزراعة وغيرهم، وهم غير مؤهلين أصلا للتعليم و ليس لديهم فكرة عن التربية، لهذا تراجع دور الفن لأنك عندما تريد إيقاف الإبداع عند الشباب إجعله يتوقف عن التفكير النقدي.

ثومة 72
05/02/2015, 15h36
مقال جميل و ممتع جدا ...
شكرا أ. سمير