اليكم هذه المقالة التحليلية الرائعة للمسرحي والسينمائي العراقي يوسف العاني :
أيام الشباب .. كنا دائماً على موعد قبل أول يوم خميس من كل شهر ، في بيت من بيوتنا نحن مجموعة من الأصدقاء ، هذا اللقاء كان احتفاء بغناء أم كلثوم ..احتفاء له طقوسه واجواؤه وسعادته .. وكان البارع منا من يستطيع التقاط أكثر كلمات الأغنية الجديدة ، فلم تكن الاذاعات ولا "الراديوات" آنذاك بمثل الوضوح الذي هي عليه الآن ..
فكم كانت الزوابع والاعاصير تبتلع مقاطع كثيرة لا تسمع منها إلا الصدى البعيد الغارق في البعد ، وكانت تلك اللحظات تحمل معاناة الترقب للجديد الذي تقدمه أم كلثوم في كل حفلة من حفلاتها الساهرة ... وتستمر اللقاءات بل تتحول في اليوم التالي أو الذي بعده الى شبه (ندوات) تتبادل الرأي حول الاغنية الجديدة .. القصيدة واللحن ، ولم يكن ضمن النقاش أداء ام كلثوم ، فغناؤها سواء كان أغنية قديمة أو جديدة .. هو الانموذج للأداء الفني الفذ الذي لا يرقى اليه نقد او جدال ..!
وتداولتنا الأيام والسنون ... ولم يعد وقتنا ولا ظروفنا قادرة على التوفر الكامل للمتابعة الدائمة الدائبة ، ولا ملاحقة الجديد من الغناء الذي تقدمه أم كلثوم.
الأمر الذي بقي على حاله في رأي ورأي مجموعة أصدقائي القدامى- إن أم كلثوم الفنانة ظلت هي (القمة) ولا اعني بذلك مستوى المكانة التي وصلتها أم كلثوم .. بالعكس فانا كثيراً ما أفضل أغانيها القديمة عن بعض أغانيها الأخيرة ..
المسألة لا تعدو أن تكون مجرد إحساس بشخصية أم كلثوم الفنانة وتشخيص لمكانتها وتقييم لعطائها الدافق الذي لم ينضب ولم يضع ولم ينله الذبول عبر سنوات العمر.
أم كلثوم اذاً لم تصل القمة لمجرد امتلاكها الموهبة الفذة في الغناء فحسب ، فقد سمعنا وما زلنا نسمع بين الحين والحين الآخر أصواتاً خلابة نأمل منها الجديد في العطاء والجودة في الأداء والتطور المتواصل لتخطي مراحل تقدمها ومن ثم وصول مراكز الصدارة الفنية سعياً وراء مجد منشود لا بد من الوصول اليه .. لكن الأمر يقف في أول الطريق أو في وسطه على أكثر تقدير ..!
أم كلثوم عرفت كيف تنمّي موهبتها ، كيف تصقلها كيف تستغلها الاستغلال الكامل ، كيف تنتفع من قدرات وإمكانات الفنانين الذين تعاونت معهم ..
أم كلثوم لم تتوقف عن تثقيف نفسها ، لم تكف عن الدراسة ، دراسة كل ما يزيد فنها غنى وشخصيتها مكانة وأصالة .. كانت إنسانة متواضعة بسيطة ، طيبة القلب ، حلوة المعشر ، تتعامل كأية واحدة من افراد مجتمعها دون أن يقودها سطوعها وتألقها الفني إلى الغرور والتعالي الفظ ..
ظلت أم كلثوم تعني العناية الكاملة بفنها وبشخصيتها وسلوكها ، وظلت على اصرارها في ان تزيد تجربتها تجربة ، وعطاءها عطاء ..وفنها تألقاً وسطوعاً ..ظلت تحترم فنها وتقدسه.
لهذه الاسباب بقيت أم كلثوم في القمة ، دون ان تقدر أية موهبة فنية اخرى التسلق والوصول الى المجد الذي وصلت اليه أم كلثوم ، لأن الأمر كان أكبر بكثير وأعمق بكثير من مجرد المحاولة التي لا تحمل مقومات الصعود إلى ذلك المجد ...
أم كلثوم ظلت وستظل "درسا" بليغا وقيَّما في تاريخ فننا وفنانينا!.
عام 1975