يعد المقريء الشيخ عبد الستار الطيار من المتقنين لأحكام التجويد بشهادة أهل الإختصاص ومن المتقنين للنغم حتى أنه كانت تدور منافسات فيما بينه وبين يوسف عمر في المنقبة النبوية من حيث إجادة الطبقات العالية والقطع والأوصال الصعبة فهو خرج عن طور الملا في المنقبة ليلتحق إلى حد ما بأهل المقام لأنه كما يعلم أهل الإختصاص أن الملا له وظائف في المنقبة ومقامات معينة لا يخرج عنها عادة
إخوتي رواد منتدى سماعي أحب أن أبين لكم في هذه المقالة المتواضعة أن مسألة أخذ بعض المطربين من بعض ليست كما يصورها بعض الكتاب من الطرفين المتحيز إلى (الملا عثمان الموصلي) والمتحيز الى (سيد درويش) رحمهما الله، حيث إن روح التبادل كانت سائدة فيما بينهم من دون تحسب لكل ما يخدش بشخصية هذا أو ذاك.
يقول الطبيب عادل البكري عن هذا التبادل الذي حدث بين الأستاذ وتلميذه: وفي إقامة (الملا عثمان الموصلي) بدمشق حدث حادث مهم له أثره في تاريخ الموسيقى العربية، وهو التقاء (عثمان الموصلي) بنابغة الموسيقى المصرية (سيد درويش)، وكان سيد درويش وهو من مواليد الأسكندرية عام 1892م قد شغف منذ صباه بالموسيقى والغناء، وتجلت مواهبه الغنائية أثناء اشتغاله في أعمال البناء بأجر يومي بسيط، وعند ذلك التحق ببعض الفرق الغنائية التي تعمل في المقاهي وحفلات الأفراح والموالد، وفي مطلع عام 1909م تكونت فرقة غنائية من بعض الفانين برئاسة أمين عطا الله وأخيه سليم عطا الله وكان هدفها تقديم ألوان من الغناء المصري وبعض الألحان الموسيقية والأغاني الخفيفة في الأقطار العربية ومنها سوريا ولبنان، وكان من تقديرات الله أن تعرّف أمين عطا الله في القاهرة على سيد درويش ولمس موهبته الغنائية فقرر ألحاقه بهذه الفرقة، وسافرت الفرقة إلى دمشق وكان من بين أعضائها سيد درويش، وأقامت عدداً من الحفلات الموسيقية والغنائية ، ومكثت عشرة أشهر في هذه المدينة وهي تقيم عروضها الفنية التي لم تلق النجاح التي كانت تتوقعه، بل ان الفشل الذي منيت به جعلها تختصر رحلتها وتعود الى القاهرة، وهكذا لم يحقق سيد درويش ما كان يحلم به من الشهرة الواسعة، إلا أنه حقق شيئاً آخر وهو التعرف إلى الشيخ (عثمان الموصلي) فكان يقصده في غرفته في أوقات النهار ليستمع إلى ألحانه ويأخذ عنه أصول الموشحات العربية والتركية، فيدخل عليه ليجد نفسه أمام شيخٍ أعمى ضخم البدن يلبس ملابس غريبة ويضع على رأسه طربوش المولوية الطويل وقد لف عليه عمامة خضراء، فرحب الشيخ بتلميذه الشاب وبدأ يلقي عليه دروسه حتى إذا أوشكت الفرقة أن تنهي أعمالها في دمشق وتعتزم على العودة إلى مصر كان التلميذ يودع استاذه ويعود مع الفرقة الى مصر ولكن وعده بالعودة مرة ثانية إلى دمشق ويقيم فيها مدة أطول ليكمل دروسه عليه، وهي الدروس التي أسهمت في تكوين الشخصية الفنية للموسيقار الموهوب سيد درويش، وبعد عودة الملا عثمان إلى إستانبول وفي عام 1911م وجد (الملا عثمان) باخرة متوجهة إلى بلاد الشام فحزم أمتعته وكتبه، وأنهى كلَّ تعلق له في استانبول وودع أصدقاءه ومعارفه وتوجه الى الباخرة ومعه مودعوه، فقد أحب ركوب الباخرة فهي أكثر راحة واطمئناناً وأوفر ظلاً من سفر البر، لا سيما وان معه كثيراً من الكتب والمتاع، وأبحرت به الباخرة نحو موانيء الشام، وفي دمشق وجد الموصلي أصدقاءه ومحبيه بانتظاره، وبينما كان في غرفته بعد صلاة العصر من أحد الأيام وإذا به يسمع طرقاً خفيفاً على الباب، ثم يسمع صوتاً مألوفاً لديه يسلم عليه ويكلمه باللهجة المصرية، وهنا فتح الشيخ عثمان ذراعيه وهو يقول: (أهلاً بولدي سيد درويش! أهلاً بك..... كيف حالك)
لقد عاد سيد درويش من القاهرة إلى دمشق مع فرقة أمين عطا الله، وأخيه سليم عطا الله بعد أن مكثت الفرقة سنتين في مصر تعيد تدريب أعضائها وتتزود بمواهب وكفاءات فنية جديدة بعد رحلتها الأولى الى سوريا ولبنان 1909م وهي الآن تصمم على انتزاع النجاح والشهرة انتزاعاً بعد الفشل الذي منيت به في رحلتها الأولى، وتصل الفرقة إلى دمشق لتحقق نجاحاً مرموقاً على مسارح دمشق وبيروت، وكان سيد درويش يبدع في فنه وألحانه مساء كلِّ يوم ليعود نهاراً إلى غرفة أستاذه الموصلي ليتلقى الدروس على يديه خلال مدة طويلة بلغت هذه المرة سنتين بين عامي (1911م/1913) وهي المدة التي أقامتها الفرقة في دمشق، وأعاد الأستاذ خلالها على تلميذه النابغة أصول المقامات والموشحات العراقية والتراثية العربية والتركية وصار يستمع إليه وهو يعزف على العود تارة وعلى القانون أخرى ويشير له إلى اختلاف أصول المقامات وفروعها وتشعباتها وأبعادها عن بعضها حسب مواضع الأصبع على الوتر، ويحفظه كثيراً من الألحان حفظاً، وهي الألحان التي جعلته قادراً على التصرف بالنغم ليدخله في أغان مصرية مبتكرة، وهذا الكلام ليس محض افتراء او اختراع من أهل العراق، لأن المصريين هم قد قالوا هذا الكلام، يقول مؤلف كتاب (سيد درويش حياة ونغم) انه عرف لسيد درويش 38موشحاً بعضها في مدح النبي r، وهناك شك في نسبة التواشيح له حتى بين الكتاب المصريين أنفسهم، فلعلَّ بعضها من التراث القديم الذي أتى به سيد درويش في رحلتيه المشهورتين الى سوريا ولبنان، والمعروف أنه تعرف إلى الموسيقار الكبير (عثمان الموصلي) وخاصة في رحلته الثانية، ونقل عنه بعض التراث القديم.. وليس غريباً أن يسجل سيد درويش نوتات ما حفظه من الموصلي بخطِّ يده حفظاً عليه من الضياع والنسيان([1])
وهذا الكلام نص صريح على أن الموشحات المنسوبة لسيد درويش هي مما اقتبسه من الموصلي، وهي لم تظهر في مصر إلا بعد رجوعه من الشام والتقائه (بعثمان الموصلي) خلال رحلتيه المشهورتين.
ولندع الأستاذ (محمد البحر) وهو ابن الموسيقار الكبير (سيد درويش) يحدثنا عن التقاء أبيه بـ(الملا عثمان الموصلي) وأخذه عنه الموشحات والأغاني خلال هاتين الرحلتين، فيقول: إن أباه (تعرف في الرحلة الأولى والثانية بالأستاذ عثمان الموصلي فأخذ عنه من التواشيح ما استطاع حفظه([2])) أما عن الرحلة الثانية فيقول: (هي الحجر الأول في بناء مجد سيد درويش حيث رجع بعدها إلى الأسكندرية بعد أن امتلأت جعبته الفنية من فن الأستاذ عثمان الموصلي.... وقد حفظ الكثير من الأغاني والموشحات([3]))
ومما لا شك أن لهذا النص أهميته لأنه يصدر عن ابن (سيد درويش)، وهو الآخر فنان متميز، كما فيه إشارة إلى أن سيد درويش لم يأخذ عن الموصلي الموشحات فحسب بل أخذ أيضاً الأغاني وملأ جعبته الفنية كما يقول.
ومن الجدير بالذكر أن سيد درويش درس على الموصلي أطول مدة درسها تلميذ عليه من بين تلاميذه الذين يعدون بالعشرات، وهي تقارب الثلاث سنوات، وهذ دون شك دليل على رعاية الفنان الكبير للمواهب التي يتمتع بها سيد درويش ودليل على اعتزازه به ومودته له، حتى إنه أجل موعد عودته إلى العراق ريثما ينتهي تلميذه من دروسه، فطالت مدة بقاءه في دمشق وهو لم يكن مضطراً للبقاء فيها.
وقد استطاع سيد درويش بعد رجوعه إلى مصر أن يطور الغناء المصري حتى بلغ به مكانة مرموقة، وقد أدخل فيه كثيراً من الألحان المبتكرة التي استفادها من أستاذه الموصلي ونشرها على شكل اغان خفيفة ذات لون جديد فذاعت في طول البلاد وعرضها مثل أغنية (زوروني كل سنة مرة) التي كانت في الأصل موشحاً دينياً للشيخ عثمان الموصلي في مدح النبي rوآله الكرام مطلعه(دزر قبر الحبيب مرة) وما زال بعض المنشدين في بغداد والموصل يقرأون هذا الموشح في الموالد باللحن نفسه وبالكلمات التي وضعها الشيخ عثمان: بينما تحولت كلماتها لتغنى كأغنية في البلاد العربية، وكذلك أغنية (طلعت يا محلى نورها) وكانت في الأصل موشحاً دينياً من نغم (الجهاركا) مطلعه (بهوى المختار المهدي) فشاعت الأغنية كثيراً في مصر وتداولها الناس لجمال لحنها وبساطة كلماتها بعد أن تحولت الى اللهجة المصرية، ثم اقتُبس هذا اللحن في سوريا ونظمت عليه كلمات وطنية ليكون أغنية قومية سنة1920م تدعو الى دعم عرش الملك فيصل الأول في سوريا ومطلعها:
واجب عليك يا افندي تخدم بلادك تخدمها بذمة او بعدين يرتاح فؤادك
لذلك فقد تضاربت الأقوال في أصل هذه الأغنية وادعت أكثر من جهة نسبتها إليها.
والإقتباس موجود وشائع بين المغنين والملحنين لا سيما بين تلميذ واستاذه، وما هو إلا تعزيز وتوثيق لتلك الصلة بينهما كفنانيْنِ كبيرين وعملاقا الموسيقى في الوطن العربي خلال نصف قرن من الزمن.
وما هدفنا هنا إلا توثيق ألحان الموصلي، والموصلي نفسه لجأ إلى الإقتباس في بعض الأحيان مثلما فعل مع اللحن التركي المسمى(سيد هواسي) وهو لحن من مقام الرست سمعه مرة في الموصل حينما كانت تعزفه موسيقى الجيش العثماني في حامية الموصل فأعجبه اللحن فنظم عليه قصيدة في مدح آل بيت الرسول r مطلعها (يا آل طه فيكم قد هام الضنى يرجوكم) فنالت اعجاب الناس آنذاك وطربوا لها، وهي أحدى المدائح الجميلة التي تقرأ في المولد([4]).
[1])) ينظر: سيد درويش حياة ونغم/ محمد علي حماد/ القاهرة 1970م ص33
[2]))ينظر: سيد درويش حياة ونغم/ محمد علي حماد/ القاهرة 1970م ص45.
[3])) ينظر: سيد درويش حياة ونغم/ محمد علي حماد/ القاهرة 1970م ص47.
[4])) ينظر: عثمان الموصلي قصة حياته وعبقريته/ د. عادل البكري/وزارة الثقافة والاعلام، دار الشؤون الثقافية العامة الطبعة الأولى بغداد1990.
التعديل الأخير تم بواسطة : نور عسكر بتاريخ 11/03/2016 الساعة 03h11
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ من [12.2]الى [4.5]..عدد المشاهدات [15] [نور]
التعديل الأخير تم بواسطة : نور عسكر بتاريخ 06/08/2012 الساعة 12h31