"الجندول": أروع روائع عبد الوهاب
في البداية نعبّر عن حيرتنا إزاء التاريخ الحقيقي لصدور هذه الأغنية: في أي عام تحديدا قام الأستاذ
محمّد عبد الوهاب بتسجيل هذه الرائعة الفنية لأول مرة بإذاعة القاهرة ؟ نحن نتوفّر الآن على تاريخين متباعدين: عام 1939 وفق رواية الأستاذ محمد قابيل (مجلة أكتوبر العدد 759، ص45)، وعام 1948 حسب إدارة الأرشيف بالإذاعة التونسية (التي تؤكد وثائقها أن دخول "الجندول" إلى مجموعة تسجيلاتها الغنائية قد تمّ أثناء العام 1948).
فإذا ما رجّحنا رواية الأستاذ قابيل معتبرين صدور "الجندول" في العام 1939، فإننا سنجد أن صوت عبد الوهاب في هذه الأغنية هو أكثر نضجا و شيخوخة (إن جاز لنا التعبير) مما كان عليه في كافة أغانيه الصادرة عبر الثلاثينات. فهو، أي صوت عبد الوهاب، في "الجندول"، أقرب إلى صوته في أغنية "عاشق الروح" التي نعلم يقينا أنها قد صدرت في العام 1949. أو بتعبير آخر: لقد كان صوت فناننا الكبير في قصيدة "الجندول" صوت كهل أربعيني بامتياز، و بالتالي مختلفا عما هو في أغنية "جفنه علّم الغزل" و "أعجبت بي" و "الهوى و الشباب" و غيرها من تسجيلاته في أواخر الثلاثينيات. ثمّ إن النضج الموسيقي أو الحذق التلحيني أو الإقتدار الأدائي الذي تتميز به أغنية "الجندول" لا نجد مثيلا له في كل ما أبدعه الأستاذ عبد الوهاب أثناء عشرية الثلاثينيات. و مع ذلك، فإننا لا نرى استحالة صدور "الجندول" في أواخر الثلاثينيات، إذا علمنا أن هذه القصيدة كان قد كتبها علي محمود طه في العام 1938 (حسبما أوضح هو نفسه في ديوان "الملاّح التائه").. و إذا علمنا أن هذا الشاعر قد نشرها بجريدة "الأهرام" كي يعثر عليها فجأة الأستاذ عبد الوهاب و يوفّق في تلحين معظمها خلال أقل من 24 ساعة.. قبل أن يتمكّن من إنجازها كاملة بعد أشهر... لكن الراوي لهذه المعلومات (وهو عبد الوهاب نفسه) لم يحدّد أي تاريخ...
و مع ذلك نظلّ أكثر ميلا لفرضية أن تكون "الجندول" قد صدرت في غضون الأربعينيات.. باعتبار أن "الجندول" بافتراض صدورها في أواخر الثلاثينيات أو حتى في أوائل الأربعينيات لوجدناها من ضمن أغاني أفلام عبد الوهاب. فكلنا يعلم أن الأفلام الغنائية في المنظور الوهابي كانت أساسا أداة ترويج لروائعه الفنية.
و لنتجاوز حيرتنا إزاء تاريخ صدور "الجندول"، لإلقاء شيء من الضوء على هوية ناظمها علي محمود طه. وهو شاعر مصري رومنسي الطابع، توفي دون سن الخمسين في العام 1949. و كان مهندسا ميسور الحال، رقيق الإحساس.. إلى درجة أن الوقوف إزاء أشعاره كالوقوف أمام لوحات رسّام انطباعي.. حيث تتمازج الحالات النفسية للفنان بالأشياء أو بالأشخاص أو بالأحداث التي انشدّ إليها خلال معيشه اليومي. و كان الشاعر علي محمود طه مغرما بالتنقل و التجوال؛ إذ قام بزيارة أقطار أوروبية أكثر من مرة.. ناهيك عن جولاته في أماكن متنوعة داخل القطر المصري. ففي سياق زيارته للبندقية أو فنيسيا (المدينة الإيطالية ذات الشوارع المائية) ولدت قصيدة "الجندول". وهي قصيدة وصفية تضافرت فيها خاصيات الشعر الرومنسي على نحو ممتاز: طغيان المزاج الذاتي على الوصف الموضوعي للأشياء أو الأشخاص أو الأحداث... و إمكانية تشخيص الأشياء على نحو يجعل فيه الشاعر الكأس عاشقا مثلا أو موج البحر يغنّي أو الورد ينتحر من فرط غيرته... ولا يكون ذلك إلا باستخدام ملكة الخيال على نحو يرسم به الشاعر ما نصطلح على تسميته بالصورة الشعرية. ثم عدم التقيّد في التعاطي مع الشعر أو القصة بأي التزام سياسي أو أخلاقي أو ديني... فلذات الشاعر أو الفنان عموما مطلق الحرية في التعبير عما يحسّ به دونما ضوابط عدا قواعد التبليغ الفنية و اللغوية.
وبالنظر إلى أهمية معاني قصيدة "الجندول" في تحويلها إلى رائعة غنائية و موسيقية خالدة، فإننا نستسمح القارئ الكريم في استعراض أبياتها كما غنّاها عبد الوهاب: ينطلق الشاعر من التعبير عن انبهاره بجمال الفضاء الذي شاهد فيه الجندول.. الذي هو زورق خشبي على غاية من الرشاقة، يستخدمه الناس للتنقل عبر الشوارع المائية لمدينة البندقية. فقال مخاطبا هذا القارب الجميل:
أين من عينيّ هاتيك المجالي *** يا عروس البحر يا حلم الخيال
ويمضي في مساءلة الجندول عن عشاقه سمّار الليالي، و عن واديه (الشارع المائي) واصفا هذا الزورق بكونه مهدا للجمال.. أي أي حاملا لفاتنات على غاية من الحسن و البهاء:
أين عشاقك سمّار الليالي *** أين من واديك يا مهد الجمال
ثم يوضّح الشاعر المناسبة التي جعلته يتغنى بالجندول: عيد سنوي تشتهر به البندقية يعرف بعيد الكرنفال.. حيث
تتجمع قوارب الجندول لتتهادى بانتظام في القنال (الشارع المائي الرئيسي)، وهي تحمل الغيد الفاتنات المشاركات في الاستعراض الخاص بهذا العيد:
موكب الغيد و عيد الكرنفال *** وسرى الجندول في عرض القنال
ثم يخبرنا الشاعر عما كان يفعله هو عندما سرى الجندول في عرض القنال: كان يجلس إلى حانة مطلّة على هذا المشهد البديع.. و كان يمسك بكأس به خمر على غاية من الجودة.. إلى درجة أن الكرْم الذي أعطى عنبه ظلّ يتشهى ذلك الخمر! وفي نفس الوقت كان هذا الشاعر يتابع بعينيه إحدى المشاركات في الاستعراض.. ولقد عبّر عنها بلفظ الحبيب المذكَّر تعظيما لها (على عادة قدماء العرب)، كما أشار إلى حسنها الفتّان عبر صورة شعرية مفادها أن الكأس الذي بين يديه كان يتمنى لثم ثغرها !
بين كأس يتشهى الكرْم خمره *** وحبيب يتمنى الكأس ثغره
لكن متابعة الشاعر لهذه الفاتنة أثمرت عن التقاء عينيه بعينيها.. فأحسّ نحوها بالحبّ من أول نظرة:
التقت عيني به أول مرة *** فعرفت الحب من أول نظرة
أما المقطع الثاني من قصيدة "الجندول"، فهو أشبه باللوحة الزاخرة بالحركات الرقيقة من جانب هذه الفاتنة التي انجذب إليها الشاعر عند متابعته للاستعراض.. فهو يبدأ هذا المقطع بوصف لقاء آخر يجمع بينهما داخل حانة فخمة بالبندقية: فهو يصفها كيف مرّت به مستضحكة باسمة بالقرب من ساقٍ (نادل) كان يمزج الخمر بأقداح رقاق.. كناية عن رقة و شفافية هذه الأقداح:
مرّ بي مستضحكا في قرب ساقي *** يمزج الراح بأقداح رقاق
لكن علي محمود طه لم يتمالك عن التوجّه إلى هذه الغادة دون سابق إنذار.. فتلاقت أعينهما مرّة أخرى و ابتسم كل منهما للآخر.. وكان ذلك كافيا لضبط موعد لقاء:
قد قصدناه على غير اتفاق *** فنظرنا وابتسمنا للتلاقي
وكانت هذه الحسناء وقتئذ تضع أناملها الرقيقة على مفرق شعرها لتسوية خصلاته الناعمة.. ما أثار افتتان الشاعر الذي قال:
وهو يستهدي على المفرق زهره *** و يسوّي بيد الفتنة شعره
ثم يترك الشاعر للقارئ تصور اللقاء المتواعد عليه.. فكان لقاء حميميا شرب فيه كل منهما من كأس الآخر.. لذلك يصف علي محمود طه إحساسه عندما تناول أول قطرة راح من كأسه الحامل لبصمات شفتيها، يصف ذلك قائلا:
حين مسّت شفتي أول قطره *** خلته ذوّب في كأسي عطره
وينتقل الشاعر إلى المقطع الثالث من رائعته الشعرية، ليأخذ في وصف الخليلة التي تشاركه الآن شرب الراح.. فيقول إنها ذهبية الشعر و شرقية الملامح و السمات. هذه إشارة منه إلى انتمائها لأوروبا الشرقية، إذ جاءت من بولندا تحديدا إلى البندقية للمشاركة في عيد الكرنفال.. وإسمها الحقيقي "كريستينا".. حسب تعقيب الشاعر علي محمود طه على قصيدة "الجندول" ضمن ديوانه "الملاّح التائه". ويتابع وصفه لها على نحو غير مسبوق (في تقديرنا)؛ إذ اكتفى بالإشارة إلى أمرين إثنين لا ثالث لهما: كونها مرحة الأعطاف للدلالة على رشاقة حركاتها، وكونها حلوة اللفتات للدلالة على رقة تحويل نظراتها إليه كلما توجه إليها بالكلام:
ذهبي الشعر شرقي السمات *** مرح الأعطاف حلو اللفتات
ثم يلاحظ الشاعر أن حبيبته "كريستينا" كانت تبدي إقبالا كبيرا على شرب الراح.. إذ كانت تقول "هات" كلما ناولها الكأس:
كلما قلت له خذ قال هات *** يا حبيب الروح يا أنس الحياة
ويفسح لها مجال الكلام.. كي تخبره بأنها التي ضيّعت عمرها في الأوهام، أي أنها لم تشغل بالها بمتاعب الحياة وهمومها. لذلك، فقد نسيت التاريخ أو أرغمت على نسيان تقلباته:
أنا من ضيّع في الأوهام عمره *** نسي التاريخ أو أنسي ذكره
وتستثني "كريستينا" على لسان الشاعر يوما واحدا من التاريخ.. وهو اليوم الذي نادمت فيه علي محمود طه قائلة إنه قد يتكرّر.. وحتى في صورة عدم تكرّره، فإن ذكراه ستبقى على مرّ الأيام:
غير يوم إن لم يعد يذكَر غيره *** يوم أن قابلته أول مرّه
وأخيرا يطلق الشاعر العنان للسانه المنتشي كي يحدّث خليلته البولندية عن مصر. فلقد هاجت به الذكرى، فتساءل عن الأهرامات.. وعن النيل العظيم:
قلت والنشوة تسري في لساني *** هاجت الذكرى فأين الهرمان!
أين واد السحر صدّاح المغاني! *** أين ماء النيل أين الضفتان!
و في نهاية القصيدة يرسم لنا علي محمود طه صورة على غاية من الرقة، حين يتمنى أن ترافقه هذه الفاتنة في جولة على النيل.. داخل زورق يتهادى في سكون الليل، بحيث تبدو النجوم بفعل انعكاس أضوائها على الماء سابحة خلف الشراع.. فتتحرّك أمواج النيل تحت هبات النسيم.. لتروي حلم ليل من ليالي كليوباترا:
آه لو كنت معي نختال عبره *** بشراع تسبح الأنجم إثره
حيث يروي الموج في أرخم نبره *** حلم ليل من ليالي كليوباترا
وهكذا يكون بديهيا أن يحسّ الموسيقار عبد الوهاب بروعة قصيدة "الجندول".. كي يعمد إلى تلحينها على نحو غير معتاد بالنظر للتلاحين التقليدية لقصائد من الشعر العربي.. إن أهم ما يثيرنا (نحن كهواة) في أغنية "الجندول" احتواؤها لتمازج مدهش بين مهارتي التعبير و التطريب.. فنحن نفترض أن عبد الوهاب كان في قمة انتشائه عند تلحينه لهذه الرائعة الشعرية. بحيث لم يتمالك عن الانقياد بدوره نحو الفضاء الساحر الذي رسمته كلمات علي محمود طه.. فتاه خياله في أرجاء البندقية، و استمتع هو الآخر بلقاء "كريستينا" و التحاور معها.. لكن على نحو خاص بمحمد عبد الوهاب! أي وفق رومنسية نغمية (وهابية) صرفة. لذلك يمكننا القطع بأن الأستاذ عبد الوهاب لم يكن يفكّر (عندما باشر تلحين "الجندول") في نوعية المقامات الموسيقية الواجب توظيفها في عملية التلحين ولا في طرح أسلوب جديد في التلحين.. لا، بل إن كل ما حصل (في تقديرنا) كونه قد انساق نحو تلحينها مدفوعا بنشوة غامرة ذات صلة بمشاركة وجدانية بينه و بين الشاعر علي محمود طه. تؤكد هذا الافتراض انسيابية اللحن و صدق الأداء اللّذان يطبعان أغنية "الجندول" من أولها إلى آخرها. لذلك لا نجاري العملاق عبد الوهاب في قوله (ضمن سلسلة "النهر الخالد") بأنه قد تعمّد في هذه الأغنية إرساء أسلوبية جديدة في تلحين القصائد.. قوامها التركيز على تلحين معني الجمل الشعرية بدلا عن كلماتها.. كما لا نوافقه على ادّعائه بكونه قد افتعل تلحين عبارة "أنا من ضيّع في الأوهام عمره" في قالب الموّال الشرقي. وذلك على سبيل الإغراء للسامع العربي كي يهضم بقية المقاطع التجديدية ضمن أغنية "الجندول"! طبعا، إنه من حق عبد الوهاب إدعاء ذلك.. تأكيدا لريادته في تجديد الأغنية العربية. لكنّه لم يشعرنا في أي مقطع من مقاطع "الجندول" بأنه قد تعمّد أو تصنّع شيئا.. فالصدق والانسيابية كانا يطبعان أداءه و موسيقاه طوال هذه الرائعة الغنائية كما ذكرنا منذ حين.
وبديهي أن بعض علماء الموسيقى العربية لا يذهبون مذهبنا في القول بأن "الجندول" قد جاء تلحينها عفويا خاليا من أدنى تصنّع.. باعتبار تركيز هؤلاء على الجانب التقني الصرف من هذه الأغنية. فهي في منظورهم رائعة لحنية، لأن عبد الوهاب قد أحسن توظيف مقام "النهاوند" في تلحين مذهبها، و من ثمة عرف كيف يستخدم تلوينات مختلفة من مقامات "البيات" و"الراست" و"الكرد"... بصورة جعلت كل مقطع من "الجندول" مونولوجا مستقلا بذاته و معبّرا عن مهارة لحنية متفرّدة. ونحن بدورنا لا نملك إلا تأييد كل تحليل تقني_علمي لأغنية "الجندول". لكننا فقط نريد القول: بالتأكيد أن عبد الوهاب قد أحدث في هذه الأغنية ثورة لحنية وأدائية، لكنه لم يفعل ذلك وفق حسابات مسبقة! ناهيك أنه قد أنجز تلحين معظمها في وقت قياسي لم يتجاوز اليوم الواحد! لأنه (بفرضية الحسابات المسبقة) سيحتاج في تلحينها لأشهر طويلة!
وقد يكون مفيدا تذكير القارئ الكريم بأننا كهواة لا نتعامل تقنيا ولا علميا مع الأغاني.. بل نحن نتأثر بها فقط عبر أذواقنا.. لأن الذي يجعلنا نفضّل أغنية على أخرى يتمثل في قوة أو ضعف الجرعة الفنية المحتواة في هذه أو تلك من الأغاني.. أي في مدى التأثير النفسي الذي يمكن أن تحدثه فينا. فأي جديد على المستوى الغنائي لا يمكن أن نصفّق له ما لم يبعث فينا إحساسا بالانتعاش الفني. وفي المقابل، ليس بوسعنا تجاهل أي قديم ظلّ إلى اليوم يحرّك فينا لواعج الطرب.. خذ مثلا: اغنية عبد الوهاب "يا جارة الوادي" ذات الطابع التقليدي (رغم ما تتميز به من تطوّر نسبي) هي في الذوق العربي العام تحمل جرعة فنية أعلى بكثير مما تحمله أغنيته "في الليل لمّا خلي".. بالرغم من تقنياتها المتطورة جدا !