الجمهور لم يصفق له في أول لقاء معه
-----------------------------
كتب الصحفي الراحل محمد بديع سربيه عن "العندليب الأسمر" عبد الحليم حافظ ذكريات صحفية جمعها في كتاب أصدره عام 1978 وحمل عنوان: "مشوار مع العندليب"..:
ذكرياتي عن "العندليب" الراحل عبد الحليم حافظ معه تبدأ في العام 1953، وبالذات بعد شهور من الثورة التي أطاحت بالعرش، وغيّرت وجه مصر مجتمعاً وتاريخاً ونظاماً.
يومها، لم تكن في مصر أزمة طرب فقد كان عدد المطربين والمطربات كبيراً، والجمهور لم يكن الفن يأخذ الكثير من اهتماماته، باعتبار أن ما كان يجري على المسرح السياسي قبل الثورة وبعدها كان يأخذ منه اهتماماً أكثر من الغناء والطرب.. ومع ذلك فقد كانت تلمع في ذلك الحين أسماء ووجوه للعديد من المطربين والمطربات.
في مقدّمة المطربين كان الموسيقار محمد عبد الوهاب، ويومها لم يكن بعد قد تفرّغ للتلحين أو أصبح الغناء عنده مجرّد هواية، وكان أيضاً الموسيقار فريد الأطرش الذي لم يكن بعد قد أصيب بالذبحة القلبية الأولى، وكان نشاطه متدفقاً وأغانيه تملأ الأسماع، وكذلك كان في مصر والدنيا العربية مطربون تتداول أغانيهم الإذاعات والاسطوانات والأفلام، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: محمد فوزي، كارم محمود، عبد العزيز محمود، سعد عبد الوهاب، وجلال حرب.
وأيضاً كانت هناك أكثر من مطربة لامعة وناجحة. أم كلثوم بصوتها الذهبي الرائع، وليلى مراد، بحلاوة حنجرتها، وصباح، برشاقتها وشبابها، وشادية بدلعها وخفّة ظلّها.
وباختصار، كانت ساحة الغناء والطرب مزدحمة إلى الحد الذي لم يكن من السهل أن يجد أي وافد جديد إليها مكاناً، ولا أن يحوّل الأسماع عن هذه الأصوات، إلى صوته وأغانيه.
وفي هذه الفترة بالذات التقيت صدفة براقصة سمراء قادمة من القاهرة اسمها ميمي فؤاد، وقالت لي:
ـ عاوزة منك خدمة.
قلت:
*حاضر.
قالت:
ـ عاوزاك تنشر صورة لمطرب جديد اسمه عبد الحليم حافظ.
وكانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها بإسم الفتى الأسمر الذي بات فيما بعد أشهر المطربين العرب!
وسألت الفنانة السمراء:
*مستعد.. ولكن من هو عبد الحليم حافظ هذا؟ إيه حكايته، هل تحبينه؟
قالت:
ـ أبداً، إعجاب بريء والله العظيم..
ثم راحت تروي لي حكايته.
انها كانت إحدى راقصات فرقة شكوكو التي كانت تعمل في أوائل الخمسينات على أحد مسارح الاسكندرية، وذات يوم كانت في غرفة نجم الفرقة ورئيسها شكوكو، ورأت شاباً أسمر يدخل إلى الغرفة ويقول لشكوكو:
ـ ليه الفرقة ما فيهاش مطرب؟!
وكان هذا الشاب الأسمر هو بالذات الملحّن محمد الموجي، وردّ عليه شكوكو:
ـ وإيه لزوم المطربين، الفرقة ماشية كويّس، والمتعهّد مبسوط وبيكسب!
وقال الموجي:
ـ لكن أنا عندي مطرب كويّس جداً صوته حلو، وفوق كده مش حياخذ أكثر من اتنين جنيه كل ليلة.
وأخذ شكوكو نَفَساً من الشيشة التي كانت أمامه، وقال للموجي.
ـ طيّب خلّيه يشتغل الليلة.. وانا سأكلّم المتعهّد عشان يدفع له اتنين جنيه.
ودخل عبد الحليم شبانة يومها إلى المسرح، وأمسك به الموجي من يده ليقدّمه إلى الجمهور، وغنّى ليلتها أغنيتين لم يكن الجمهور قد سمعهما من قبل هما: "ازيّكم يا حبايب" و"بتقوللي بكره".
ولأن ميمي فؤاد، سمعت الحديث الذي دار بين شكوكو والموجي عن هذا المطرب الجديد، فقد هرعت إلى ما وراء الكواليس بدافع الفضول لتراه وتسمعه، وتابعته بعينيها وهو يجهد نفسه في الغناء دون أن يثير إعجاب أحد من جمهور الحفلة، بل أنه بدأ الأغنية الأولى وأنهاها دون أن يصفق له أحد، ولم يكن حال الأغنية الثانية بأحسن من حال الأغنية الأولى.
وما أن نزل عبد الحليم عن المسرح حتى هرعت ميمي فؤاد إلى غرفة شكوكو، وسمعته يسأل أحد مساعديه:
ـ إيه رأيك بالمطرب الجديد؟
وأجاب المعاون:
ـ ولا حاجة.. لم يصفّق له أحد ولا أغانيه أعجبت الناس.
قال شكوكو:
ـ يبقى ياخد الاتنين جنيه الليلة.. وكفاية كده!
وهنا تدخلت الفتاة السمراء التي كانت تسمع الحديث، وقالت لشكوكو بتوسّل:
ـ أرجوك يا أستاذ، خلّيه يجرّب حظه كمان مرة.
وكان يسمع هذا الحوار من بعيد الملحّن محمد الموجي، فنقله بحذافيره إلى المطرب الأسمر الذي كان في غاية التأثّر من مجافاة الجمهور له، ولكن، كانت ترتسم على وجهه في نفس الوقت علامات العناد والاصرار.
وفي اليوم الثاني، اقترح متعهّد الحفلات على عبد الحليم أن يحاول كسب الجمهور فيغنّي له في بادئ الأمر أغنية مشهورة للموسيقار محمد عبد الوهاب، ولكن الفتى الأسمر رفض ذلك، وقال للمتعهّد:
ـ بدل ما أغني غنوة لعبد الوهاب، هاتوا أية اسطوانة له فيسمعها الجمهور ويكون مبسوطاً أكثر.