25- الحلقة الخامسة والعشرون .. وأخيراً عثرت على عبد الوهاب .. كنت ماسك عودي يومي .. وكانت كلمة السر هي
"في الليل لما خلي" ..
يستكمل عبد الوهاب في الحلقة الخامسة والعشرون .... الرواية الشيقة .... التي تحكي قصة أحلى ثلاثة أرباع قرن مرت على مصر .. عصر زمن جميل .. يا ليته يعود .. ويستمر المحاور اللبق في سرد الأحداث بشكل مشوق ومثير ..
وفي هذه الحلقة يتحدث عبد الوهاب .. عن عثوره على عبد الوهاب الفنان .. وتساءل هل الفن تمثل زهرة برية .. تنبت تلقائياً .. وتستمر بفعل الطبية .. أو الفنان يحتاج للصقل والتعليم .. وحدثه أمير الشعراء .. عما يمكنه غناؤع بعد قصيدة "يا شراعاً وراء دجلة يجري .. التي نظمها في مديح الملك فيصل الأول .. ملك العراق .. وتحدثا عن الأغنية الوصفية .. التي لحنها عبد الوهاب تلحيناً مرسلاً .. والتي أضاف إليها توزيع موسيقي جديد .. وأدخل في اللحن لآلات موسيقية جديدة .. مثل الفيولانسيل والكونترباص .. ورحب عبد الوهاب الفكرة .. وطلب أن يقدم هذه الأغنية بمصاحبة فرقته الموسيقية .. وتحدث أمير الشعراء في القصيدة التي نظمها في رثاء شاعر النيل "حافظ إبراهيم" .. وصارح عبد الوهاب .. أن شعوراً شديداً يراوده أن بعد سوف يموت هو وحافظ إبراهيم في نفس السنة .. وحاول عبد الوهاب أن يبعد عنه الوسوسة .. وقال له إن شاء الله ح أغني في عيد ميلادك المئوي .. فتنهد أمير الشعراء ... وقال أنه لديه شديد إحساس بقرب الأجل .. ورفض عبد الوهاب السماع إلى هذه الوساوس والأوهام .. ولكنها مشاعر الشعراء .. الذين إن أخلصوا يكونون قريبين من الخالق .. وريما يرسل إليهم خواطر بالتنبيه إلى موعد الرحيل .. وللخروج من الجو الحزين .. الذي خلفه رحيل شاعر النيل في شوقي بك .. طلب عبد الوهاب سماع بعض أبيات القصيدة .. وقرأ عليه شوقي بك مطلع أبيات من رثاء حافظ إبراهيم ..
قد كنت أوثر أن تقول رثائي .. يا منصف الأموات والأحياء
ولم يعجب المطلع عبد الوهاب .. ولكنه كان تعلم الكياسة في الحديث ... واللباقة في الكلام .. فردد "الأموات والأحياء" .. بدون أن يبدي رايه .. فرد شوقي بك بشعر الشاعر المرهف .. والذي يحس بما لم تقله الشفاه .. ويسمع حديث الصمت النبيل .... "إيه مش عاجباك .. الأموات والأحياء .. ؟ " .. وراح في تفكير عميق .. وبلباقته التي عرفناها عنه .. قال "هو فيه حد يعدل على شوقي بيه ؟ " ... وقال أمير الشعراء أنه كان يقصده .. لما قال .. "وأذن المغني تحس النسيما .. ويسمع في الكأس جرس الحبيب" .. ووصل الرفيقان إلى حلواني سولت .. وفور وصولهما كان الوحي قد هبط .. وقال شوقي بك .. شوف يا عم محمد ..
قد كنت أوثر أن تقول رثائي .. يا منصف الموتى من الأحياء
أشهر ما كتب حافظ إبراهيم ..
رموني بعقم ٍ في الشبابِ وليتني *** عقمتُ فلم اجزع لقول ِ عداتي
ولدتُ ولما لم أجد لعرائســـــي *** رجالا ً وأكفاءَ وأدت ُ بناتـــي
وسعتُ كتابَ اللهِ لفظا ًوغايـــة ً *** وما ضقتُ عن أي ٍ بهِ وعظاتِ
فكيف أضيقُ اليوم عن وصف آلةٍ *** وتنسيقُ أســـماءٍ لمُخترعــاتِ
أنا البحرُ في أحشائه الدر كامن ٌ *** فهل ساءَلوا الغواصَ عن صدفاتي
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسـني *** ومنكم وإن عز الدواء أســـــاتي
فلا تكــلوني للزمــــان فإننـــي *** أخاف عليــكم أن تحــينَ وفاتــي
أرى لرجال الغرب عزا ًومنعة ً *** وكم عـــزَ أقـــوامٌ بعـــزِ ُلغـــاتِ
أتـوا أهلـها بالمعجــزات تفننـــا ً *** فيا ليتــكم تـــأتـــون بالكـلمــــات ِ
وقال هذه هي الحاسة الدفينة في الفنان .. وأن الفنان يستطيع أن يتذوق الكلمات .. وافترقا إلى لقاء في الجلسة المسائية مع وهيب دوس باشا . وغنى عبد الوهاب ...
في اللـــــــيل لــــــما خلى *** إلا من الباكي
والــنوح على الدوح حـــــــــلى *** للصــــارخ الشاكي
ما تعرف المبــــــــــــــتلى *** في الروضة من الحاكي
سكون و وحشة *** و ليل ما لوش آخر
و نجمة مالــــــت و نجمة *** حلفت ما تتــــــــــــــاخر
دا النوم يا ليل نعمة *** يحلم بها الســـاهر
الفجر شأشأ و فاض *** على سواد الخميلة
لمح كلمح البياض *** من العيون الكحيلة
و الليل سرح فى الرياض *** ادهم بغرة جميلة
هنا نواح ع الغصون *** وهناك بكا في المضاجع
ليه تشتهى النوم عيون *** وعيون سواهي هواجع
ودوح غرق في الشجون *** ودوح ما شافشي المواجع ..
يا ليل أنيني سمعته *** و الشوق رجع لي وعاد
و كل جرح وساعته *** و كل جرح بميعاد
كم من مفارق وجيعته *** و ليل و هجر و بعاد
وصفق جميع الحاضرين .. "أحسنت يا محمد " .. وردد الجميع لحن جديد .. وجريء .. وقال وهيب بك دوس أن الواد محمد ده واد مكار ولئيم .. لأنه أرضى عشاق القديم ... وفي نفس الوقت .. ورد محمد أن الفنان لا يخطط أن يلجأ أولا إلى إرضاء المستمعين .. بل ما يهمه هو في المقام الأول هو الفن في حد ذاته .. ودافع أمير الشهراء عن إبنه وحبيبه .. وهنأ محمد .. وقال له "مبروك يا محمد .. ما دام الأغنية لاقت كل هذا الجدل الصحي . فهذا دليل على نجاحها .. ونجاحه هو شخصياً .. ووصل عبد الوهاب إلى بغداد .. وفوجئ برياح السموم .. وفوجي بتخلف الشوارع العراقية .. لأن غير مسفلته "مزفتة بالعراقي" .. وأثنى عبد الوهاب على حسن استقبال الجمهور العراقي له .. وقال أنه يبغى سماع بعض الأغاني العراقية .. لأنها مختلفة عما نقدمه في مصر .. وذهب إلى تحسين بك .. الذي قال أنه جلالة الملك ينتظره .. ويبغي رؤياه ... ورحب فيصل الأول ملك العراق بالضيف الفنان .. وقال له أنع سيغني قصيدة شوقي بك ..
خريطة بغداد 1944 .. إبان حكم الملك فيصل الأول ....
" يا شراعاً وراء دجلة يجري ... "
يا شراعاً وراءَ دجلة َ يجري*** في دموعي تجنبَتكَ العَوادي
سِر على الماءِ كالمسيحِ رُويداً *** واجر في اليمِّ كالشعاع الهادي
وأْتِ قاعاً كرفرَفِ الخلدِ طِيباً*** أو كفردوسهِ بشاشة َ وادي
قفْ ، تمهَّل ، وخذ أمانا لقلبي *** من عيونِ المهَا وراءَ السَّوادِ
والنُّواسِيُّ والنَّدامَى ؛ أَمِنْهُمُ*** سامرلٌ يملأُ الدُّجى أو نادِ ؟
خطرتْ فوقه المهارة ُ تعدو*** في غُبارِ الآباءِ والأَجداد
أمَّة ٌ تنشىء الحياة َ *** وتبني كبِناءِ الأُبوَّة ِ الأَمجاد
تحتَ تاجٍ من القرابة والمُلـ *** لـكِ على فَرْقِ أَرْيحيٍّ جواد
ملك الشطِّ، والفراتيْنِ، والبطـ*** ـحاءِ، أَعظِمْ بِفَيْصَلٍ والبلاد
وبعد القصيدة قرر عبد الوهاب أن يمكث في العراق أسبوعاً آخر .. وسأله محادثه .. وكان شخصاً مهماً .. عن رأيه في العراق .. وتجرأ عبد الوهاب .. وتحدث بانطلاق شديد .. غير عابئ بمن هو محدثه .. وانتقد أصحاب الأرض بشدة .. وتساءل كيف يهمل حكام هذه البلد الشوارع .. ويتركون النهر الجميل في هذه الحالة التي يرثى لها .. وأن هؤلاء الحكام أنانيون .. لا يفكرون إلا في أنفسهم .. وسأل تحسين بك عمن كان يتحدث معه .. فقال له أم سمو أمير العراق .. وكانت صدمة كبيرة لعبد الوهاب .. الذي خشي على نفسه من بطش الأمير .. ولكن ماذا فعل عبد الوهاب في هذا المأزق الصعب ؟ فقد كان مأزقاً من درجة عالية .. يمكن أن يعرضه إلى خطر القتل .. أو الاعتقال .. وهذا ما سنعرفه في الغد عند متابعنا للحلقة القادمة ..
وأترككم كي نلتقي في الحلقة السادسة والعشرين .. لنستكمل حكاية حياة الموسيقار .. ونستمع له من السرد الشيق للأحداث
مع أطيب التمنيات بحسن الاستمتاع ....
أ.د. لطفي أحمد عبد اللطيف