قالوا في الفنان عزيز علي
حماسة الأغنية السياسية الساخرة وآمالها..
جاسم المطير
أيصح بعد هذا أن تنزل فؤوس الاتهام على رأس عزيز علي الفنان الذي أستغل (الراديو) لإسماع صوته لأوسع الناس.. ؟ من جانب آخر نواجه السؤال التالي: أليس الشعر والغناء تلزمه موهبة خاصة..؟ ألم يكن مطلوباً من عزيز علي أن يكون ملماً بفن التلحين كي يحسن إبداعه وانجازه، وأن يكون، كفنان، يحسن المجاملة والصداقة كي يتجاوز قيوداً ثقيلة وعديدة قبل دخوله إلى مبنى الإذاعة.
إلى جوار هذا فإن الناس (المستمعين) كانوا يحسون عند سماعهم أغانيه إن عزيز علي يقترب منهم ومن قلوبهم بالضبط كما كان فن بيرم التونسي واحمد رامي وغيرهما في مصر يتحدث إلى الناس بصدق وحب ومودة .
لم ينتمِ عزيز علي إلى حزب سياسي معين بل غاص في أعماق الحس النقدي الساخر من الأوضاع القائمة والمتجذرة في نفوس المواطنين البسطاء وغيرهم . سيطرت عليه روح الأغنية السياسية واهباً لها حياته كلها من دون أن يجد حزباً أو جمعية أو مجموعة أدبية أو فنية مدافعة عنه أو داعمة لاجتهاداته الفردية في ممارسة فضح الحكومات الرجعية المتعاقبة..
لماذا..؟
أظن أن أحداً لا يستطيع أن يجيب على هذا السؤال من دون(حيرة) أو (وجل).. لقد أختار عزيز علي طريق وصوله إلى أسماع الناس المعارضين للحكومة عن طريق (صوت الحكومة) نفسه أي الإذاعة اللاسلكية الرسمية في النظام الملكي، فتأتي الحيرة هنا من أن أغاني عزيز علي تحمل الكثير من (الآمال الوطنية) فكيف تسمح إذاعة الدولة بـ(نشر) هذه الآمال بأوسع نطاق.
أما (الوجل) فيأتي هنا من خوف الكاتب الناقد المنصف بقول كلمات حق عن هذا الرجل فيصير سهم الاتهام نفسه موجهاً إلى صدره أيضاً. لا أنسى هنا تذكير القارىْ بأن مصطفى جواد والرصافي والجواهري وعبود الكرخي والزهاوي وغيرهم من مبدعي وعظماء العراق كانت أصواتهم تصل إلى الجماهير عبر الإذاعة الرسمية أيضا. يمكن الإشارة أيضاً ان هذا واقع نفسه في مصر حيث كانت الإذاعة المصرية وسيلة لإيصال أصوات رجال من خارج الحكومة المصرية أو معارضين لها تمر جميعها من الإذاعة المصرية الرسمية.
من هذه " الحيرة ومن "الوجل " أيضا حصلت إحدى المحن التي عرقلت وما تزال تعرقل البحوث الفنية والشعرية وحق التعبير عن الرأي لإنصاف هذا الرجل كما تعطل حق الرجل نفسه بتقييم مواقفه ومعرفة نهايتها . المشكلة الرئيسية التي يجب علينا أن نبحث فيها هي: هل كان فن عزيز علي أصيلاً.. أم مصطنعاً.. هل كان فناناً حقاً أم "موظفا " صنعوه للفن؟
في اعتقادي أن بحث هذه المشكلة يجب أن يتم قبل بحث الأسباب الكامنة وراء الصراع القائم في محاورة من يوجهون إليه الاتهامات. فإذا كان فنه أصيلاً حقاً وإذا كان هو فناناً حقاً وليس " موظفاً غنائياً " فإن جميع تفاصيل الادعاءات تسقط بعيداً. هذا ما يجب أن يجرب الباحثون التوصل إليه . من هنا نطرح السؤال التالي: هل يوجد تعارض بين إرادته الذاتية في أغنياته وما بين أرادة هذه " الجماعة الوطنية " أو تلك..؟ بمعنى آخر هل كان شعره موجهاً ضد الوطنية والوطنيين..؟
تستلزم الإجابة على السؤال أن يطل المجيب إطلالة متعمقة على " الديوان " الشعري ـ الغنائي الذي أعده بعض الباحثين العراقيين ومنه جزء لم ينشر بعد. أنا لا أشك في أن القارئ سيجد نفسه بعد إطلالته الثقافية الخاصة أنه توصل مثلي ومثل كثير من الأدباء الذين استكشفوا مكونات المفردة الشعرية، وجوهر المضامين الكلية لـ " القصيدة ـ الأغنية " في فن عزيز علي بأنها كانت تصب في محور الصراع القائم آنذاك ضد سلطة نوري السعيد، وبكل الأحوال فإنه لم يكن ضد أحد من الوطنيين ولا ضد حزب من الأحزاب الوطنية.
بالرغم مما يحيط بفكرة اتهامه بالماسونية من غموض وإبهام حتى لدى متهميه أنفسهم وحتى لدى الذين وضعوه في داخل السجن لمدة تزيد على السنوات العشر، فإن المتأمل في ماضيه، أقوالاً وأفعالاً، لا يجد سهولة في إلصاقها بالماسونية وأهدافها. من العسير القول أن أغانيه خدمت الماسونية لا خصومها.
في هذا الصدد لا يمكن نسيان (الأخلاقية) الخاصة المعروفة في أوساطنا الشعبية والثقافية باستسهال توجيه الإدانة والاتهام بمجرد ظهور إشاعة معينة ضد هذا أو ذاك من الناس (الوطنيين) حتى نجد الألسن تتناقل ما تسمعه الآذان بسرعة فائقة. وما أكثر ما يتم تناقله في هذه الأيام داخل الأوساط الوطنية نفسها حيث زيد يتهم عمرو بأشنع الاتهامات..!!.
فيما يخص تهمة الماسونية لا يمكن التعويل عليها خاصة وان تنظيمات (الماسونية) العراقية لم تكشف كامل أوراقها بعد. الوحيد الذي أقر بنفسه انتسابه للماسونية كان محمد فاضل الجمالي في المحكمة العسكرية الأستثانية (محكمة الشعب) عام 1959 ـ كما أظن ـ وحتى انه دافع عن انتسابه وعن الماسونية أيضاً. لذلك فإن دراسة انتماء أي شخص للماسونية يحتاج إلى تقصٍ ومعرفة حقيقيتين، وأولاً وقبل كل شيء، إلى تحليل نصوص أغانيه لمعرفة مدى تطابقها مع أفكار وأهداف الماسونية.
لقد آثر عزيز علي أن يكون شعره الشعبي بملامح أساسية لتحديد العديد من المواقف السياسية وأتسم أسلوبه بالسخرية في تصوير خصوم الوطن، الداخليين والخارجيين، كما نجح في أسلوبه الإيحائي من خلال مفرداته الإيحائية والرمزية المكتسبة غنائية الشعر وتعبيريته مما جعله يبلغ مستوى موسيقياً ليس عادياً، إضافة إلى احتوائها على القوة والإرادة التي تكشف تخبط " السادة القادة " في دهاليز السياسة محاولاً انتزاع اليأس من صدور السامعين.
يمكن الإشارة إلى أربع علامات في تطور الفن الغنائي لدى عزيز علي:
1) العلامة الأولى تميز فيها ناقداً سياسياً للأوضاع الدولية والإقليمية والعربية.
2) العلامة الثانية تميز فيها بمناداته بحقوق الإنسان رافضاً التمييز العنصري منادياً بحرية الفكر والمعتقد.
3) العلامة الثالثة دعوته إلى ترك الأحلاف العسكرية داعياً إلى انتهاج سياسة الحياد الإيجابي، منتقداً جامعة الدول العربية ومجلس الأمن.
4) العلامة الرابعة تميزت بدفاعه عن الشعوب العربية الأخرى كشعب فلسطين قبل النكبة وبعدها، وشعب الجزائر أيام ثورته من اجل الاستقلال.
هذه العلامات المميزة له ولفنه ولأغانيه لم تكن معبراً لحياة هادئة أو هانئة فقد جرته إلى أن يكون موضع ملاحقة ومضايقة، كآلاف آخرين، من قبل الحكومات المتعاقبة خاصة كلما تضمنت أغانيه وأشعاره نقداً تلميحياً أو مباشراً، إلى حكومات العهد الملكي ناقداً سياسات التجاوز على بعض مظاهر الديمقراطية وادعاءات الحكام، فاضحاً مصادرة الحريات وتعطيل الدستور، كما أدان بوضوح دور القوى الخفية الاستعمارية اللاعبة بمقدرات البلاد. قيل عنه أنه كان من مؤيدي حركة رشيد عالي الكيلاني واعتقل وسجن بسببها. دخل إلى السجون مرات عديدة. طرد من الوظيفة. منع من دخول الإذاعة، خاتماً حياته بدخول السجن لمدة طويلة لرفضه مساومات الظهور على شاشة التلفزيون ممتنعاً عن كيل المديح للنظام الذي جاء به انقلاب 1968.
لقد اخذ عزيز علي شيئاً قليلاً من فنه لكنه أعطى الكثير لمستمعيه و للشعر الشعبي الأصيل ولفن الغناء صانعاً قاعدة متينة وجميلة للأغنية السياسية الساخرة المدهشة في مضمونها المعارض.
إذا كان عزيز علي قد عاش مظلوماً في ماضيه، فإنه يجب أن يذكر مكرماً في مستقبله. وإذا كان الفنان العراقي، في الماضي والحاضر يبحث عن هويته، فإن عزيز علي وجد هويته المتميزة في ماضيه، وإذا كان قد مات راضياً بما قسمته له الحياة من دون أن يتذوق طعم نجاحاته، فإن صوته المجلجل في بيوت العراقيين في الوقت الحاضر سيكون تتويجاً لفرصة بقائه حياً في قلوب الجماهير المتطلعة إلى الحرية والديمقراطية.
بورك القائل: إن الطيور الجميلة مكانها الأقفاص.
وبورك جهد كل باحث حين يجاهد لتحرير عزيز علي من القفص.
(المقال وكل ما ورد فيه يعبر عن وجهة نظر الكاتب فقط وليس رأي المنتدى او لجنة الاحتفالية)