سلام و احترام،
حفلات تونس بقصرالرياضة بالمنزه (القبّة) ... 31/05/1968
الجزء 3 : سميع فقير....يقطع 150 كيلومتر مشيا على الأقدام... لماذا ؟؟؟؟؟
في مدينة جندوبة في الشمال الغربي على بعد حوالي 150 كيلومتر من العاصمة تونس. كان يأتي مساء كل يوم و يجلس على الرصيف بجوار مقهى شهير كان يبث كل يوم وصلة او وصلتين من روائع كوكب الشرق ....
.
فكان لا يبرح مكانه إلا بعد الاستماع للأغاني المذاعة كاملة ....
كان فقيرا جدا، ومع ذلك فغالبا ما كان يرفض بكل أدب ما يقدمه له رواد المقهى من مشروبات، كوب من الشاي أو القهوة أو زجاجة مشروبات غازية ... لكنه كان يقبل بعض المليمات من الزبائين المنشغلين بلعب الورق (الرامي أو البيلوت أو الشكُبّة .... ما يرادف الكتشينة وغيرها في بلاد المشرق)، بعد أن يقدم لهم خدمة بسيطة كشراء علبة سجائر أو الإتيان ببعض الدواء من الصيدلية. فكان الكل يحترمه و يشهد له بعزة النفس و دماثة الخلق ...
.
بدء خبر مجيء أم كلثوم لتونس ينتشر بين الناس كالنار في الهشيم ... و أصبح حديث المدينة الأول ...
.
سأله أحد رواد المقهى بابتسامة لا تخلو من مداعبة أو (تريقة): هل أنت ستذهب لحضور حفلة أم كلثوم ؟..... لم يصدر عنه أي جواب ... لكن ابتسامة خجولة علت وجهه و لم يكن أحد سواه يعلم مغزاها ....
.
في صباح أحد الأيام و قبل الحفل الموعود بأيام قليلة ... شد الرحال حاملا معه جوربا فيه قليل من الأكل و الماء .... و لمن كان يسأله من الناس كان يرد قائلا أنه متجه لتونس لمشاهدة كوكب الشرق ... فكان الكل يستهزء منه كونهم يعلمون عدم قدرته على شراء تذكرة عادية بسعر 20 دينارا و هو ما يوازي مرتبا شهريا لموضف عادي ...
.
وصل لتونس العاصمة بعد 3 أيام من السير زهاء ال 150 كيلومتر على الأقدام ، تخللتها بضع ساعات من الراحة .... و انتظر مساء يوم الحفل الأول في 31/05/1968 و اتجه الى مكان الحفل بالقبّة و كان ينوي الإقتراب من المدخل الرسمي لرؤية كوكب الشرق بأم عينه ...
.
إلاّ أن الأمر كان مستحلا ..... إذ طوقت قوات الشرطة و الأمن المكان على بعد عشرات الأمتار و لم تسمح بالإقتراب من القبة إلا لمن كان يحمل تذكرة ... فمكث هناك الى نهاية الحفل و لم يكن يرى أو يسمع شيئا ... و كان أمله الوحيد أن يرى الست عند خروجها من القبة....
.
انتهى الحفل و إذا به يرى أعدادا من عشاق أم كلثوم يهرعون في اتجاه معيّن ... فأخبره أحدهم أنهم يلاحقون السيارة التي تحمل أم كلثوم إلى نزل الهيلتون (الذي أصبح اليوم الشيراتون) الذي نزلت به كوكب الشرق و الذي يبعد عن القبة بحوالي كيلومترين ... حاول الجري معهم لكنه لم يرى الست و لا حتى السيارة ...
.
قضى ليلته على مرتفعات منتزة البلفيدير (Belvédère) القريب من تلك المنطقة و المحاذية لذلك النزل ...
.
فجأة .... و تحت نور تلك الليلة المقمرة التي هلت عليه ... .. أدرك أن الحلّ الوحيد يكمن في الرصيف...
.
فكما كان يجد سعادته في الإستماع و الاستمتاع بأغاني أم كلثوم بالجلوس على الرصيف المحاذي للمقهى في جندوبة، التجأ منذ الصباح الباكر إلى رصيف الطريق المؤدي الى النزل، على قرب من المدخل ... و جلس ينتظر...
.
ما هي إلا ساعات قليلة فإذا بموكب يغادر في هدوء نزل الهيلتون حاملا الست لبرنامج زيارات و استقبالات رسمية ...
.
و تحت أشعة شمس مشرقة ... يتحقق حلم حياته و يرى كوكب الشرق بأم عينه ... فإذا به يشعر بفرحة تغمره و سعادة تغشاه ...
.
مكث بعض الوقت في تلك الحديقة ليستجمع قواه ثم عاد ادراجه من حيث جاء و كأنه حضر الحفل و استمتع بأم كلثوم مع عشرات الآلاف من المحظوظين ...
.
و عندما عاد لمدينته، روى قصته لمن يعرفه من رواد المقهى و كانوا قد افتقدوا حضوره على الرصيف لبضعة أيام ... و صارحهم القول بأنه قطع على نفسه عهدا... إذا صحّ خبر قدوم كوكب الشرق إلى تونس فهو سيذهب لتونس العاصمة سيرا على الأقدام...
.
كان هذا الرجل كهؤلاء الذين يذهبون لزيارة تبرّك لأحد الأولياء الصالحين أو كمثل الذين يحجون إلى مكة المكرمة في القرون الماضية على ظهور الجمال أو مشيا على الأقدام ...
.
فهل يوجد حب أكبر أو أخلص أو أنقى من عشق هذا السميع الفقير لكوكب الشرق ؟؟؟؟
.
هذه القصة الحقيقية رواها لي أحد أقاربي و هو كذلك من عشاق كوكب الشرق و كان يُدَرِّس في احدى المعاهد بالقرب من مدينة جندوبة و كان من رواد ذلك المقهى و عرف شخصيا ذلك السميع العجيب ..
.
نزل الشيراتون (الهيلتون سابقا)