مقالات عن الفنان يوسف عمر
الأستاذ الكبير يوسف العاني الذي لعب دور البطولة في فيلم سعيد أفندي (1957) يقص لنا حكاية مشاركة الفنان يوسف عمر في هذا الفيلم وكيفية ولادة أغنية (عزيز وخلفت بالقلب حسرة) التي أداها فيه والتي اكتسبت شهرة شعبية كبيرة . علماً بأن فيلم سعيد أفندي هو من أنجح وأشهر الأفلام العراقية القديمة ، وقد اعيد عرضه في صالة المعهد العالم العربي في يوم 21 تموز 1998 بحضور الفنان يوسف العاني ولفيف من النقاد العرب و الاجانب وجمهور غفير من الجالية العربية وكان لي شرف حضور العرض والتحدث مع الفنان العاني الذي رد على جميع الأسئلة التي طرحت عليه عقب انتهاء العرض.
المقالة نشرت في الصحافة العراقية على أثر وفاة الفنان يوسف عمر وأُعيد نشرها في كتاب "شخصيات .. وذكريات" للأستاذ الكبير يوسف العاني عام 1999 وبمقدمة للكاتب المعروف عبد الرحمن منيف.
الأغنية في السينما العربية ومنذ بداياتها في مصر ، وحتى اليوم تحشر حشراً ، كما تحشر في افلامها مشاهد الرقص .. وهذه سمة يعيبها السينمائيون في الغرب والشرق ، واذا ما استثنينا العدد القليل مما انتج لسنوات خلت فان الرقص والغناء ظلا وسيلة سهلة وأحيانا – وآسف لهذا الوصف – رخيصة في جذب الجمهور الساذج الذي تأسره أحداث الأغاني المائعة وحركات الأجساد.
هذا العيب كان يرهقنا لسنوات طويلة ونحن في ريعان شبابنا الفني ، نتطلع إلى الجديد المنقح من تشويهات الصنعة التجارية في السينما المصرية.
وحينما بدأنا جدياً بالتحضير لإخراج (سعيد أفندي) عام 1957 كان الطموح اكبر من الامكانات المتوفرة لدينا ، وما في الذهن لا يتسع مداه إلا إلى الحدود التي تقف سداً منيعاً ، كأنه الطوق الخانق ومع كل الظروف الصعبة استطعنا تحويل الأمنيات الكبيرة إلى حالات ممكنة التحقيق ، ان نضع سلبيات السينما المصرية في مصفاة كبيرة . فلا نبقي منها إلا ما يتلاءم وضرورات العمل السينمائي الذي نريد ، وما لا يمكن تجاوزه انسياقا مع واقع ظل معششاً زمنا طويلا في اذهان الناس.
لم نفكر إطلاقا ان يكون في الفلم رقص وغناء وهزل مسف كما هو شائع ، بل كان العكس تماماً كان هناك مشهد غنائي راقص أردنا بواسطته السخرية من الغناء السوقي بالذات ، الأغاني التي كانت شائعة في الملاهي والكباريهات والتي كان بعضها يمسخ الغناء الذي له مكانة فنية عالية في الساحة الفنية.
مع هذا المشهد كان هناك مشهد آخر ، أردنا أن تكون الأغنية فيه وسيلة تعبير عن الحالة الدرامية لمضمون المشهد بالذات ، ونغماً يحمل بلحنه وكلماته اصالة الإحساس العراقي وصدق تعبيره .. كل ذلك دون ان تكون الأغنية مفتعلة او محشورة ، وان يكون اداؤها بمستوى عال كي يتناسب التعبير والتأثير معا ..
في تلك الايام كانت علاقتنا وصداقتنا مع الفنان المرحوم يوسف عمر في بداياتها ، وكنا نسميه (أبو يعكَوب) وكان صديقنا والمشارك معنا بأكثر من مسؤولية في الفيلم (صالح سلمان) أقرب منا إليه ، بل كانا يسكنان في دار واحدة .. فكان هو الوسيط في طرح فكرة تعاونه معنا ، لان يوسف عمر لم يكن من الفنانين السهلين في التعاون لمجرد الظهور في فيلم او اي عمل فني آخر. كان صالح الوسيط في اقناعه اولا وفي ايجاد صيغة الأغنية المناسبة ثانيا .. وفي أن نتعاون جميعا على ذلك وعلى اختيار كلمات تلك الأغنية.
يوسف رحب بالفكرة بعد تردد لم يدم طويلا لكنه ظل ولفترة غير قصيرة يفكر في الأغنية التي يجب أن تؤدى في مكان المشهد ، وهو بار شعبي في الميدان ، بين جمع من السكارى والأغنية كما اردناها ، تعبير عن حالة (سعيد أفندي) وهو يحمل معاناة اصابة ولده (عزيز) إصابة تراءت له قاتلة ولن ينجو من الخطر. حضر (أبو يعكَوب) في يوم التصوير الى المكان الذي تصور فيه المشهد داخلياً ، إذ لم يكن في المكان الذي يظهر فيه سعيد افندي ماشيا ثم داخلا إليه ، وانما كان المشهد الخارجي بمكان ، في الميدان – كما قلت – لأنه قرب سينما شهرزاد سابقاً بالباب الشرقي سألته هل اخترت الأغنية.
وطلب منا ان يشاهد ما يجري من (بروفات) يستوحي منها الأغنية التي قد تأتيه طواعية ، فوصف المشهد وحده لم يكن كافياً لاستحضارها ..
ثم تساءل : أهناك آخرون غيركم سيشاركون في المشهد؟ قلت له : نعم هناك (دعبول البلام) وسوف يكون جالسا بجانبك خلال التصوير.
انشرحت أساريره وردد بفرح (أبو شاهين) وكانوا يسمون (دعبول) بهذا الاسم
-"اختيار ممتاز هذا شخصية طريفة وظريفة وتحفة ، وسوف نقضي وقتا ممتعا بقراءة البوذيات سوية قبل التمثيل ونختار الأغنية" .
وانشغلنا بالتحضير وجاء أبو شاهين ليجلس قرب (أبو يعكَوب) بعد أن أتحفنا بتعليقاته الظريفة عن الفيلم والذي كان يسميه (شريط) وعلاقة السينما ب (البلامة) إلى آخر الحوارات الطويلة التي عرف بها دعبول.
جلسا يتبادلان الأحاديث والمداعبات والنكات ، ثم تناول يوسف قلما وورقة وراح يكتب أشعاراً و "أبوذيات" يقرأها دعبول له فقد كان دعبول من الذين يحفظون الشعر – الفصيح والعامي – ويتقن تقليد الأستاذ محمد القبانجي ، ويحفظ كل أشعار الملا عبود الكرخي ، كان - كما يسمونه – خزينا للكثير من الطرائف والحكايات والأشعار المضحكة والمبكية.
وكان يوسف يقرأ له أيضا مقاطع غنائية بصوت خافت فلا نجد (دعبول) إلا وقد ضرب على رأسه إعجابا وراح يصفق ويؤشر بيده طربا واستحسانا ..!
بعد فترة قصيرة قال لنا يوسف إن الأغنية جاهزة وإنها ليست مناسبة للمشهد بل ان اسم ابن سعيد افندي – عزيز – قد صار من ضمن كلماتها .. اسما وصفة .. وراح يدندن ودعبول معه يشاركه الاداء بهدوء وشغف ..
حين جاء موعد التصوير صدح يوسف عمر بالأغنية التي اصبحت جزءاً مميزاً ومتميزاً في الفيلم (عزيز وخلفت بالكًلب حسرة ..!) وعمقت في ذات الوقت تأثير المشهد وحفظها كل الذين شاهدوا الفيلم وراحت تغنى في أكثر المناسبات.
وظل يوسف عمر يعتز بمشاركته في فيلم (سعيد افندي) ومازلنا نحن الذين صنعنا الفيلم نحس باعتزاز أكبر بمشاركته معنا فنانا جادا وكبيرا ومبدعا!!