التأثير الصوفي في الفنون والثقافة الشعبية الجزائرية ج3
5
ـ ثنائية (الطالب) و(المدّاح) في الثقافة الشعبية الجزائرية
ارتبطت ثنائية (الطالب) و (المدّاح) في ثقافتنا الشعبية برباط مقدّس،حيث لا يكاد يذكر (الطلبة) حتّى يذكر معهم (المدّاحون). ومن الشائع في الثقافة الشعبية الجزائرية والمغاربية قولهم (الطالب إذا جاح يرجع مدّاح)... وقد كان أغلب (المدّاحين) من (الطلبة) الذين عجزوا لسبب او لآخر عن اتمام حفظ القرءان الكريم.ومن ثمة يتجهون إلى المدح في الأسواق أو الأعراس أو المناسبات الدينية.وقد يكون بعض هؤلاء المدّاحين من الطلبة الذين لاحظ شيوخهم حسن أصواتهم فوجهوهم للتخصص في المديح.وعموما فإن الشعر الشعبي أو الملحون الذي كان أغلب ناظميه من الصوفية، كان بحاجة إلى من يلحّنه وينشده ويغنّيه للعامة والخاصة،على أساس أنه خطاب صوفي وعظي يكتسي أيضا نوعا من الطابع الدعوي،و أحيانا التعبوي أيضا..عندما يتعلّق الأمر بموضوع (الجهاد) ضد الأعداء.ولا توجد وسيلة أكثر فاعلية لإيصال هذا الخطاب إلى الناس من المديح أو الغناء. وهذا هو بالضبط الدور الذي كان يقوم به المدّاح.
ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار ظاهرة (المداح) اختراقًا فنيا للمجتمع من طرف الصوفية، أو بتعبير آخر توظيفا للفن كوسيلة لتحريك الخطاب الديني الصوفي على مستوى الطبقات الاجتماعية المختلفة وخاصة البسيطة منها.ولهذا نلاحظ أن العديد من شعراء الملحون من الصوفية كان باستطاعتهم نظم الشعر الفصيح على الأوزان الخليلية التقليدية، غير أن ذلك لم يكن ليحقق لهم الهدف الذي يقصدونه من النظم، لأن شعرهم في هذه الحالة لن يكون في متناول الأغلبية ولن تفهمه سوى النخبة الذي تمثل الأقلية داخل المجتمع.
ومن المعروف أن ثنائية (الطالب) و (المدّاح) هي التي تقف في النهاية من وراء ظهور ما يعرف اليوم بالفن الشعبي أو الغناء الشعبي الجزائري، حيث أن مدرسة الشعبي ما هي إلا امتداد لظاهرة المدّاح المنطلقة أساسا من الفضاءات الصوفية المتمثلة في الزوايا.فالمدّاح من جانب المضمون كان يمدح عن الله تعالى،وعلاقة الانسان به من حيث الطاعة و المعصية والاستغفار بما يشمل جميع الانشغالات السلوكية الصوفية، ويمدح أيضا عن الرسول علية الصلاة والسلام، والصحابة رضي الله عنهم،والأولياء والصالحين،إضافة إلى أيام وغزوات العرب.
أما من ناحية الشكل فقد كان المداح يكتفي بالدف أو الرباب (الكمان التقليدي) فهو غالبا يركّز على الكلمة أكثر من اللحن،أي أنه يركز على المضمون أكثر من الشكل،لأن خطابه أكثر مباشرة من خطاب الحضرة الصوفية التي تهتم بالشكل بقدر اهتمامها بالمضمون حيث يهمها توصيل خطابها في شكل فني جميل ومدروس كما هي الحال بالنسبة للمدرسة العيساوية التي سنتحدث عنها بعد قليل.
غير ان "طغيان" مدرسة الصنعة الأندلسية في العاصمة ومناطق الوسط، ومدرسة المالوف في الشرق الجزائري و المدرسة الغرناطية الأندلسية في تلمسان والغرب الجزائري،كل ذلك جعل شيوخ الطرق الصوفية ورجال الدين عموما من الفقهاء المتصوفين يفكرون جديا في اختراق المدارس الموسيقية وخاصة منها المدرسة الأندلسية من أجل توظيفها في خلق شكل فني جديد بمضمون ديني صوفي بالأساس. وهكذا أصبحت قصائد و أدعية الحضرة الصوفية منذ وقت مبكر تؤدى على الطبوع الأندلسية، ولهذا وجدنا الكثير من الفقهاء المتصوفين يهتمون بالموسيقى وطبوعها بشكل جدّي وبعضهم تعلّمها من شيوخ و أخذ عليها إجازة.
و في هذا الإطار أيضا،ظهر ذلك الاختراق الواسع لتلاميذ (المداحين) من آباء مدرسة الشعبي، للمدرسة الأندلسية،حيث أخذوا طبوعها وطبّقوها على المضامين الصوفية، لينتج عن هذا التفاعل فن جديد هو (الرهاوي) الذي ينطق بألحان أندلسية ومضامين دينية صوفية بعيدة عن المضامين الأندلسية التقليدية التي كانت وما تزال تعتبر عابثة بالنسبة للكثير من رجال الدين.
وعلى هذا المنوال أيضا،سارت الطريقة الحنصالية والطريقة العيساوية في الشرق الجزائري حيث أخذتا طبوع المالوف وطبّقتا عليها المضامين الصوفية، فظهر من ذلك طابع جديد هو الطابع العيساوي.ومن المعروف في هذا الصدد أن المدرسة الأندلسية كانت وربما ما تزال إلى اليوم تعيش ضمنيا حالة الحساسية وعدم الرضى عن هذا (الاختراق) الصوفي الذي حدث لها من طرف تلاميذ (المداحين) الذين تحولوا بعد ذلك إلى (شيوخ وعمداء الشعبي) من أمثال الشيخ مصطفى الناظور و الحاج منور و الحاج مريزق والحاج أمحمد العنقى وغيرهم.
لكن المدرسة الأندلسية تعترف مع ذلك ولا تنكر ان المدارس الفنية الصوفية استطاعت عبر التاريخ من خلال صرامة التزامها الديني من الناحية التنظيمية على الأقل، أن تحافظ على الكثير من مفردات التراث الموسيقي الأندلسي الذي ضاع مع حامليه من أصحابه الأصليّين (أصحاب الصنعة أو الآلاجية) الذين رحلوا عن الدنيا قبل أن يورّثوا فنهم،والدليل على ذلك أننا نجد الكثير من الألحان الأندلسية المفقودة من (أصحاب الصنعة ) ما تزال محفوظة عند القصادين التابعين للعديد من الأضرحة الصوفية ومنها ضريح سيدي عبد الرحمن الثعالبي بالعاصمة.
و قد يكون من بين أسباب الخصومة التقليدية بين مدرستي (المداح) و (الصنايعية أو الآلاجية) هو ان المداح يقدم فنا صوفيا موجها إلى الطبقات الشعبية الواسعة،بينما يقدم (الصنايعية) فنا موجها بالأساس إلى نخبة اجتماعية إذا لم نقل "طبقة ارستقراطية".
انتهى
.
هذه الدراسة لـ:سعيد جاب الخير
كاتب صحفي جزائري وباحث في مجال التصوف والطرق الصوفية.
saidaho@yahoo.com
الهوامش:
1 - الكلّاباذي (أبو بكر محمد بن إسحاق): التعرف لمذهب أهل التصوف، (بيروت : دار الكتب العلمية،2001)، ص 09-10.
2 - السابق، ص20.
3 - القشيري (أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن): الرسالة في علم التصوف، (بيروت: دار الكتاب العربي،بدون تاريخ)، ص 100.
4 - السابق، ص 150.
5 - الحفني (عبد المنعم ) : معجم مصطلحات الصوفية(بيروت : دار المسيرة، 1980)،ص134.
6 - السابق .
7 - التعرف لمذهب أهل التصوف، ص 178.
8 - السابق .
9 - السابق، ص 179.
10 - السابق.
11 - سعد الله (أبو القاسم ) : تاريخ الجزائر الثقافي، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 1998)، 1 / 187
12 - السابق ،2/437.
13 - السابق .
14 - السابق، 2/438.
15 - السابق، 2/439.
16 - السابق.
17 - السابق، 2/440
18 - السابق،2 /442
19 - حشلاف (الحاج محمد الحبيب): الجفر في الشعر الشعبي الملحون المغاربي، (الجزائر،الديوان الوطني لحقوق المؤلّف والحقوق المجاورة،2004)،ص 09.
20 - بن مسايب، (أبو عبد الله محمّد بن أحمد):الديوان، (تلمسان: مطبعة بن خلدون،1370 هـ)، ص 70.
21 - السابق، ص69.
22 - السابق، ص 70-71.
23 - الطيبي (الجيلالي): محاولة لقراءة لامنتمي كولن ولسن،مجلة رؤى ،العدد 25 ،2005، ص74.