عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 10/01/2008, 09h40
البقالي البقالي غير متصل  
ضيف سماعي
رقم العضوية:142543
 
تاريخ التسجيل: janvier 2008
الجنسية: مغربية
الإقامة: المغرب
المشاركات: 1
افتراضي رد: الطقطوقة الجبلية

السيد الفاضل محمد أديب

أشكرك كثيرا على المعلومات الوافية التي قدمتها هنا بخصوص العيطة الجبلية. و أشاطرك الرأي في جل ما ذهبت إليه.
ما يهمني هنا هو اجتهاد كنت قد قدمته في فهم علاقة رقصة البارود بالعيطة الجبلية. وهو بالاضافة الى كونه نتاج المعاينة و المتابعة، إلا انه بعض اجزائه هي محل تخمين وافتراض كما أوردتم في طرحكم. و يسعدني كثيرا أن اقدم هذه المحاولة للربط بين رقصة البارود و العيطة الجبلية.

كثيرة هي الرقصات الشعبية التي تعودنا على مشاهداتها في مناسبات شتى.وجعلنا فعل التعود على مشاهدتها غير مهتمين بأمرها وتفسير حركاتها وفهم طقوسها، ونركز فقط من خلال متابعاتنا لها على الجانب الاحتفالي فيها دون محاولة الغوص في أبعاد حركاتها وبعيدا عن كشف خطاب الأشعار التي تتخللها.
من بين هذه الرقصات رقصة البارود الشائعة في منطقة اجبالة. و المختلفة عن باقي رقصات البارود لدى سكان المناطق الواقعة جنوبا كتلك السائدة لدى قبائل "الحياينة"
فرقصة البارود في منطقة اجبالة هي رقصة مشاة. في حين أن رقصة البارود في الحياينة هي رقصة فرسان يركبون خيولا. و لا شك ان البيئة الجغرافية السائدة في كل منطقة هي التي حددت شكل الرقصة في كل واحدة منها.
منطقة الحياينة مثلا هي منطقة سهلية. مكشوفة. والمتحرك فيها في لحظة حرب يحتاج إلى سرعة للتنقل من منطقة لأخرى، إما فرارا من عدو، اومباغتته ومحاصرته. وبالتالي كان الاعتماد على الخيول من اجل تحقيق ذلك.
على العكس من ذلك فمنطقة اجبالة هي منطقة جبلية. وعرة المسالك، لا تصلح فيها الخيول كوسيلة للتحرك. بل أن التموقع الجيد للمقاتل. واستغلال الحواجز، والقدرة على مباغتتة العدو هو الاسلوب الأنسب كتقنية للقتال.
ما يلاحظ في رقصة البارود الجبلية أنها تبدا بتنسق مسبق. إذ ان مقدم الفرسان يعمل في تنسيق مع المشاركين في الرقصة على تحديد زمان ومكان التقاء المقاتلين خارج القرية التي سيتم فيها الرقص. بحيث أن الجزء الذي يعتبر رئيسيا في الرقصة ما هو سوى مجرد مرحلة لتحضير سابق و أخر لاحق.
الاستعداد يبدأ من قبل. إذ يتجمع المقاتلون خارج القرية،و يتم تنظيم صفوفهم وينطلقون مصطفين اتجاه الساحة التي سيتم فيها الاستعراض. وهم بذلك الشكل يبدون كقافلة عسكرية منطلقة اتجاه رقعة المعركة. وفي طريقهم تلك، يشرع المقاتلون في اطلاق البارود مثنى مثنى. وتلك العملية يمكن تسميتها في اللغة العسكرية الحالية "بالمناورة العسكرية". وهي تهدف إلى التأكد من فعالية السلاح، ورفع كفاءة المقاتل في الحرب. وفي نفس الوقت تكون العملية بمثابة دعوة لعامة الناس من اجل حضور الرقصة.
يصل المقاتلون إلى ساحة الاستعراض. و يشكلون حلقة مغلقة يتوسطها "المقدم" او المايسترو الذي يشرف على تنظيم الرقصة. و المقدم يتمركز في وسط الحلقة ويتولى اعطاء الأشارات للمقاتلين. وهو بهذا الشكل يبدو مجسدا لل "القيادة الميدانية" التي تشرف على إدارة العمليات العسكرية.
كل حرب كيفما كانت، لا بد لها من مراحل محددة. من بينها الإعداد النفسي الجيد للمقاتل. فالمقاتل لا بد أن تكون معنوياته مرتفعة. و مؤمنا بجدوى الحرب التي سيوخضها للحد الذي يكون مستعدا للاستشهاد من اجل تحقيق غاياتها.
من أجل تحقيق هذه الغاية يبدأ "عياع" وهي مقاطع أو مواويل تحتوي مضامين ومثل نبيلة تتغنى بالامجاد الغابرة، و التمسك بالعزة والكرامة، و استرخاص الحياة إن كانت خالية من الكبرياء والانفة.. ويتناوب المقاتلون على ترديد مقاطع دات مضامين متنوعة، إلا أنها تصب في مصب واحد، هي رفع معنويات المقاتل وجعله في مستوى الإقدام على التضحية من اجل تحقيق النصر

حين يشعر المايسترو أن العامل المعنوي للمقاتلين هو قد بلغ المستوى المطلوب، ينتقل للمرحلة المتقدمة. فترتفع صيحته تشق العنان و"وا هيا لولاد"
هذه الصيحة يقابلها في اللغة العسكرية الحديثة إعلان "حالة الاستنفار" او التعبئة الشاملة. وهذه الصيحة تكون مقرونة بحركات معينة. فالاصابع تكون على الزناد. والمقاتل ينقل بخفة يديه الممسكة على السلاح من الجهة اليمنى إلى الجهة اليسرى. بينما تكون عينيه مركزة إلى الامام وفيها الكثير من الشراسة و الاستعداد للانقضاض..
المشهد في هذه اللقطة يشخص وضعا هاما. فالمقاتل بتلك الحركة يجسد أنه وراء حاجز ما. قد يكون صخرة. او خندقا او اي شئ اخر. بينما عيناه المركزة على الامام، تشخص أنها رصدت العدو وترقب تحركاته بتركيز بليغ. وبهذا الشكل يفهم المتتبع ان المقاتل هو في وضع ملتصق بالأرض. مختف كليا بحيث لا يدرك العدو وجوده. بينما العدو متقدم ومتحرك. ووضع كهذا لا يتحقق إلا في حرب العصابات. وحين تنطلق الاشارة، يصوب المقاتلون بنادقهم. و يعملون كل ما في وسعهم على أن يخرجوا الطلقة في نفس الوقت. و إذا حدث ان تأخر أحدهم في إطلاق طلقته، تنطلق صيحات الاحتجاج من قبل الجمهور " خسرها" بمعني "أفسدها"
قد لا يدرك البعض ما سر ذلك الامتعاض و الاحتجاج. غير ان فهم الوضع بشكل جيد يظهر السبب.
كان يفترض مثلا أن كل مقاتل يجب ان يفاجئ العدو ويصيب هدفه بحيث لا يترك له اي فرصة من اجل أخذ احتياطاته. وهذا سر الاصرار على ان تلتقط المسامع جميع الطلقات في الوقت نفسه. وبذلك الشكل يكون كل مقاتل قد نجح في تسديده. الا ان ذلك الذي تاخر في طلقته، يكون قد افلت من كان يفترض ان يكون ضحيته. ولذلك سمع الضحية المفترض طلقات الاخرين، فعمل على الاختباء. وحين اطلق المقاتل المتأخر طلقته لم تصبه. وبذلك لم تحسم المعركة .

ما علاقة رقصة البارود بالعيطة الجبلية؟ ولماذا تبدو أشعارها بعيدة عن ما يمكن اعتباره وحدة القصيدة؟


بالعودة إلى العيطة سيلاحظ المتتبع توالي الامكنة والوقائع بطريقة ليس فيها رابط و لا انسجام سوى كون أن جيمع الاماكن تقع داخل المجال الجغرافي لمنطقة اجبالة ، من تخوم تازة إلى المحيط الاطلسي. ومن البحر الأبيض المتوسط إلى تخوم فاس و سيدي قاسم . بينما على مستوى المضمون هناك تأريخ للبطولة وتأصيل الهوية ونقش الذاكرة.

رقصة البارود لا تنتهي بانتهاء الغرض الذي جسد وقائع معركة قتالية. بل أذكر جيدا في الطفولة كيف ان "البواردية" كانوا ينتقلون من مكان العرض حيث رقصوا نهارا، إلى مكان فسيح نصبت فيه خيمة كبيرة مساء، و هناك يقضون ليلتهم في جو احتفالي بهيج مجسدين شطرا أخر من المعركة تعوض فيه البندقية بالكلمة والادوات الفنية ، مؤكدين بذلك على أن المعركة ذات الف وجه ترتبط فيه البندقية بالكلمة العاشقة للحرية واهمية الفن وسموه وهو يقوم بإنجاز ما لا تستطيع البندقية ان تنجزه.
يبدا الحفل بإنشاد العيطة مرددين كل ما كتب في هذا السجل الضخم و المتربط بالمعارك السابقة التي دارت هنا وهناك من أرض أجبالة.
يفترض في حفل كهذا أن يعمد المحتفون إلى تأريخ وقائع المعركة التي خاضوها اليوم إلى سجل البطولات الكبير . وأنه في المعركة القادمة أينما جرت سيتم ترديد ما نسجوه اليوم قبل أن ينضاف للسجل المفتوح على الايام والوقائع مقاطع البطولات القادمة اينما جرت من ارض اجبالة.
هكذا نستطيع ان نفهم لماذا يتخذ منشدو العيطة نفس لباس "البواردية" الجلباب. و العمامة الصفراء الشرقاوية. و الكتف اليمنى المكشوفة من الجلباب.
رد مع اقتباس