عرض مشاركة واحدة
  #137  
قديم 07/05/2010, 10h37
الصورة الرمزية محمد العمر
محمد العمر محمد العمر غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:372343
 
تاريخ التسجيل: janvier 2009
الجنسية: عراقية
الإقامة: كندا
المشاركات: 905
افتراضي رد: حكايات قديمة عن التراث الفني العراقي

خالد الذكر الفنان
ناظم الغزالي




النغم الذي كان رنينه يهز الاحاسيس والشمعة التي كان نورها يضيء الظلمات ..والقلب الذي يبكي للبؤساء ..وهنا بعض السطور عن حياة "ناظم الغزالي":
كاتبها "عبد المنعم الجادر"
كان ذلك قبل سنوات طويلة...يوم وقف شاب رقيق الحال في باب الدار التي اسكنها وسأل عن شقيقي الاكبر الذي كان له زميلاله في دراسته..وعرفت ان هذا الشاب كان اسمه "ناظم احمد"..وبعدها شاهدته كثيرا ..دمث الخلق..عف اللسان.. كبير القلب..و..فنان!!
وذات مرة اقيمت حفلة مولد في منطقة باب الشيخ شارك في احيائها ناظم ..في هذه الحفلة شاهدته لاول مرة كمطرب ناشئ مبتدئ ..وكنت اعمل محررا ناشئا في جريدة "اليقظة" وكتبت خبرا صغيرا عن المطربالناشئ...ويومئذ ازدادت معرفتنا ببعض بعد ان زالت معرفته بشقيقي الراحل!!..
...ومرت الايام!!
شفق يدحرج شفقا..وبدر يزيح بدرا..وشمس تركض خلف شمس.. ونهار يلد ليلا..وصفصافة تحنوعلى صفصافة..والايام تمر وناظم يتقدم في عالم الفن..ونجمه يرتفع وفنه يتعاظم ..وكلما انحنت امامه عوالم الفن ساجدة قلبه واتسع..وكلما ازداد تقبيل الاكف لبعضها وهي في رحلات تصفيقها له كلما كبر تواضعه واتسع!!.
لم ينس ايام بؤسه وشقائه ..بل كان يذكر ذلك كثيرا..وكان يسارع بتلك الذكريات ليكفكف عبرات الباكين..وينثرالابتسامات فوق شفاه البائسين..ويملأ فراغ المحتاجين.
حدث ذات يوم!!
خلال سنوات قصيرة عرف ناظم كمطرب مقامات ناشئ..ودعي بضع مرات لاحياء حفلات بعض الموالد.. واخذ التنافس على قيامه باحياء مثل تلك الحفلات كان ذلك قبل ان يرتقي سلالم مجده التي بوأته بنقل الاغنية العراقية من محيطها الضيق الى الصعيد العربي الفاره..
وانطلاقاً من تنافس الذين بدأوا يركضون خلف فن "ناظم" حدثت حادثة لمست من خلالها كبر قلب الفنان الانسان..كانت هناك امرأة طلقها زوجها في منطقة شعبية وتزوج غيرها.. للمرأة المطلقة ولد وحيد..
وللزوجة الجديدة اولاد..وللتنافس الحاصل بين المطلقة وضرتها فقد قررنا اقامة حفلة – ختان- اولادهما في ليلةواحدة..كان مع الزوجة زوجها بنقوده ونفوذه ..وكان مع المطلقة الفقر المدقع ..والقلب الموجع..وذهب الزوج على ناظم في داره بمنطقة "الكرنتينة" ليتفق معه على احياء حفلةالحنة- واتفق معه لقاء مبلغ جيد من المال. وبعده ذهبت المطلقة للمرحوم الغزالي وسألته والدموع تتأرجح في مآقيها احياء حفلة الحنة، لوحيدها..بكى ناظم..واعاد نقود الزوج اليه..وذهب الى صديق له..واستدان منه مبلغا من المال اشترى به كل ما تحتاجه ليلة الحنة..وتوسط لدى لفيف من المغنين والمغنيات مشاركته في احياء حفلة وحيد المطلقة مجاناً...وكانت ليلة تحدثت عنها كل الاحياء الشعبية!!.
ليس هناك من حدود
كان المطر يصقع كل شيء يصل اليه..زجاج النوافذ، والازاهير،والاراضي القاحلة، ووجوه "الجرخجية" واعمدة النور، وكانت الرياح القوية تساعد المطرعلى ان يقسو اكثر في صفعاته..وكنا نجلس خلف النوافذ السميكة تلفنا الوان منالضوء..وتحيطنا عوالم من انغام ..وتتكاثف حولنا طبقات من دخان السكاير بعيدا جدا عن مزعجات تلك الليلة!!
*كان ناظم تلك الليلة قد تلقى سيلا من تليفونات التهاني لنجاحه في تقديم حفلة تلفزيونية..ولم ينقطع رنين جرس التليفون حتى ساعة متأخرة من تلك الليلة ..وفجأة قال ناظم ضاحكا:
-الحمد لله...لقد هدأ التليفون هو الاخر بعيدا عن العاصفة المزمجرة في الخارج...و...
وفجأة قطع رنين جرس التليفون حديث ناظم وضحك وقال بدعابة:
-يظهر ان العاصفة استطاعت ان تهزم كل شيء الا جرس التليفون!!..
وقام يتحدث واصفر وجهه وارتعش وقال بألم كلمة واحدة...قال لمحدثه:
-حالاً!!
وبدأ يرتدي ملابسه بسرعة وبألم...وسألته جلية الخبر فعرفت ان احد الاصدقاء الفقراء جدا بحالة خطرة!!..
وبدأت سيارة ناظم تشق السيول المتراكمة..وجهه يرتعش على بريق الرعد وعيناه متعبتان..وجاء معنا طبيب ..ووصف الدواء للمريض..وعدنا لصيدلية الخافرة، وذهبنا لدار ذلك الصديق..ولم يهدأ ناظم لعدة ايام الى ان شفي ذلك الصديق..
*دموع في المحاجر...ودموع في المأق!!
كل اغاني ناظم سمعها الناس..وكل ذوق ناظم لمسه الناس..وكل فن ناظم تحسسه الناس ..لذلك كانواعلى تماس معه..ولذلك ليس هناك من مجال للكتابة عن ذلك..ولذلك هناك مجالات اخرى لرفع الشمس وتوجيه طاقاتها النورانية حول ما يجهله الناس عن ناظم!!
*قبل وفاته بحوالي الاشهر الاربعة سافر الى اوروبا وبعض البلدات العربية لزيارتها..وبعدها عاد الى داره ليموت فيه بعد وصوله بساعات..وقبل سفره بثلاثة ايام جاءني الى ادارة الجريدة التي كنت اعمل فيها وطلب مني مرافقته لبضع ساعات..الح علي بالخروج برغم تراكم اعمالي...ويومها قال لي شيئاً بعث برودة نصل الف خنجر في قلبي....يومها قاللي ضاحكا:
هسه افرض اخوك ناظم مات عله غفلة او عندك شغل..
يعني ما تمشي وراه اجنازته!!
*خرجنا نجتاز طائفة كبيرة من الازقة الشعبية وناظم يوزع مظاريف بيض اللون...داخلها نقود..يوزعها على لفيف من اصدقائه واقربائه الفقراء..كان يوزع نقوده عليهم ويعتذر..بل يبكي احيانا!!..
وعدنا للسيارة ووجهتنا دار الاذاعة حيث سجل اخر اغنية له...وفي الطريق قال معقبا على جملة قلتها له....قال رحمه الله:
-دارمنو باجر...كلنه راح انموت اومناخذ ويانه غير الجفن أرحم من في الارض يرحمك من في السماء!!
*اذرف دمعة واقرأ الفاتحة!!
شعرت انه يحاول اغاظتي بحديثه عنالموت..
واردت اغاظته من جانبي..وتحينت الفرصة...كنا قد خرجنا من دار الاذاعة ووجهتنا داره ...وفجأة قال ان بنفسه مشاهدة اشياء كثيرة من بغداد قبل سفره الذي سيدوم اكثر من اربعة اشهر.. وذهبنا من جديد نجوب مناطق عديدة...جلسنا في مقهى ارحيم الشعبية في منطقة الكرخ....ودخلنا كازينوا 14 تموز...وذهبنا الى مقهى الحاج خلف في منطقة التسابيل....ثم.... ثم جلسنا في مقهى صالح المقابلة لمقبرة الامام الشيخ عبدالقادر الكيلاني (قدس الله ضريحه) ...هنا انتهزت الفرصة لأغيضه –رحمه الله – هناطلبت اليه ان يشاهد قبور المقبرة..وشاهدناها....وسألته مغيظاً..
-انت اليوم اهوايه تكلمت عن الموت...شتريد اسوي بعد ان اموت؟؟!!
وكان جوابه شيئا عجبا.. قال وضحكته تحتل كل جانب من وجهه:
-يا صديقي اذرف دمعة بعد مماتي...وترحم علي بسورة الفاتحة...وقل ان صديقي ناظم لم يؤذ احداً في حياته...
*...وسافر.... وعاد ....فمات!!
وبدأت رسائله و"كارتاته" تصلني منه من الخارج...برقية من بيروت ...لقد وصلها...رسالة منها..لقد غادرها ..كارت من لندن.. انه فيها..من مدريد..منروما..من باريس..من تركيا..و.. وبيروت اخيرا...سيعود الى بغداد يوم غد!!..
*وجلسنا ليلة وصوله ننتظر...الاستاذ الكبير محمد القبانجي....والاستاذ حقي الشبلي والاستاذ فالح القصاب والسادة ابراهيم الحاج ارزوقي وناجي الساعاتي ....وانا!!
*وانصرفنا من حديقة المطار في ساعة متاخرة من تلك الليلة على امل ان ناظم سيصل بغداد بسيارته الخاصة صباح اليوم التالي!!
*وفي ذلك الصباح دلفت الىمكتبي في الصحيفة التي اعمل فيها انذاك...ووجدت اسمه قد كتب على ورقة فوق منضدتي...اخبرني من في المكتب ان ناظم الغزالي اتصل بي تلفونيا مرتين وانه سيتصل بيعما قريب...وجلست انتظر رنين الجرس...ورن الجرس بعد ساعة...وبدلا من سماع صوت ناظم جاءني صوت "ابراهيم" وهو يقول لي ببكاء:
- لك داد ناظم مات!!
لم اصدق طبعا ..لم اصدق
ان يدي ارتفعت الى عيوني بلطمة قوية..كان بجانبي الصديق انور الشيخلي ...قطعنا المسافة بين ادارة الجريدة وبين ناظم في العلوية بسيارة انور...كنت افكر ان الحادث ما هو الا نكتة منه... من ناظم..وصلنا الدار...كان العويل والبكاء يشقان عنان السماء..ولم اصدق...ولم اصدق ان ناظم "مات" ودخلت غرفته وشاهدت....مسجى على فراشه وقد غطى بملاءة بيضاء...ومددت يدي اروم سحب الملاءة عن وجهه....و.....
*وعدت بفكري القهقرى!!
*قبل ذلك اليوم "المشؤوم" بزهاء السنوات الاربعة كان ناظم قد سافر للجنوب لاحياء بعض حفلاته ..وعاد بعد اسبوعين
....كان برودا جزئيا قد طرأ على علاقتنا قبيل سفره...ورن يومها جرس التلفون...واخبرني المتكلم ان ناظم بحالة خطرة من المرض وانه يطلبني بالحاح...وسارعت للذهاب الى داره..ودخلت غرفته ووجدته مسجى تحت ملاءة بيضاء...تماما كما هو مسجى اليوم...مددت يدي وسحبت الملاءة وشاهدته...ضاحكا ..باسما...معاتبا!!
*واليوم..وناظم على فراش الموت تحت ملاءة بيضاء ناصعة...ويدي تمتد الى الملاءة لتزيحها...اليوم شعرت بأني سأشاهد ناظم كما شاهدته قبل اربع سنوات...سيضحك ...ويبتسم...ويعاتب!!
*ورفعت الملاءة وشاهدته...وخاب ظني...شاهدته وشحوب الموت يلثم كل قطعة من وجهه!!وطفرت الدموع من عيوني...ووقفت اقرأ سورة الفاتحة وقوله يرن في اذني:
- ياصديقي...اذرف دمعة بعد مماتي..وترحم علي بسورة الفاتحة ..وقل ان صديقي ناظم لم يؤذ احدا في حياته!!
*هكذا مات ناظم...وصل داره فرحا..دخل الحمام يحلق...خلال ذلك اتصل بثلاثة من اصدقائه: محمد القبانجي وابراهيم الحاج ارزوقي..وانا..لزمته نوبة قلبية خفيفة..جلس يلهث..طلب الاتصال باصدقائه الثلاثة ايضا....طلب الاتصال باحد الاطباء وهنت قواه...وصل الطبيب وصف له وصفة طبية.. انتابته نوبة اقوى ..عاد الطبيب يرش الماء فوق وجهه ..توقف القلب الكبير من الخفقان وانقطع النغم المرن..وانطفأت الشمعة الوهاجة ولهيبها ما زال ريان النور ..ومات ناظم الغزالي عليه الف رحمة ورحمة...مات فبكته الوف القلوب...واشرقت بالبكاء لموته الوف العيون..وترحمت عليه الوف الشفاه...رحمه الله...كان فنانا...كان انسانا...كان صديقا...وكان....كان ناظم!!
جريدة كل شيء الصادرة عام 1964
منقول بتصرف
الصور المرفقة
نوع الملف: jpg nadhem.jpg‏ (22.6 كيلوبايت, المشاهدات 159)
__________________
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
رد مع اقتباس