عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 26/06/2008, 20h42
سلمى سالم سلمى سالم غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:197220
 
تاريخ التسجيل: mars 2008
الجنسية: سورية
الإقامة: سوريا
المشاركات: 5
افتراضي رد: عبده الحامولي

الأعزاء في منتدى سماعي طرب قرأت هذا الفصل البديع في رواية "مرسال الغرام" للروائي السوري فواز حداد التي تتضمن خط روائي عن أم كلثوم ، وهي بالأساس تعتمد على موضوع الأصوات، وفي هذا الفصل يصف الروائي حداد وقائع حفل لعبده الحامولي،بقدر كبير من الخيال الأدبي مع استناد لوقائع وثائقية، حيث يختلط الأدب مع الواقع لينتج صورة فنية بديعة في وصف صوت هذا الفنان المبدع، مع الإشارة الى أن رشوم الوارد ذكره في الفصل هو أحد أبطال الرواية .
أحببت أن تشاركوني قراءة هذا الفصل لما فيه من إحساس عال في وصف صوت الحامولي مع تحياتي للجميع
سلمى


وقائع الحفل الكبير الذي أحياه المطرب عبده الحامولي في حشد عظيم من البشر، بحضور أحمد شوقي بك أمير الشعراء، وخليل بك مطران شاعر القطرين، والشاعر أحمد نسيم الموظف بدار الكتب، والأستاذ محمود رشوم.


سرادق رحب مترامي الأطراف، تحده حوائط من نسيج الخيام الملون، وتضيئه عشرات المصابيح. سرادق اتسع وضاق على اتساعه بالآلاف من البشر، من مختلف طبقات الناس: أثرياء وموسرين، ملاّك وعُمد، تجار ومشايخ، موظفون وأولاد ذوات وريفيين، فتوات واسطوات وصنايعية؛ ومن مختلف الطوائف، مسلمون وأقباط ويهود؛ ونساء بملايات لف وسافرات متفرنجات، يتلألأن بالذهب والماس واللولو.
يتدافع رشوم مع المتدافعين، ويتراكض مع المتراكضين. أين أنا؟! يتدافره البشر، وتتجاذبه أحوال الناس وهيئاتهم. ويستقر به المقام على كرسي مواجهة "التخت"، يُسلِّم على جاره الأستاذ الشاعر أحمد نسيم، فيباغت بوجود الشاعرين العظيمين أحمد بك شوقي وخليل بك مطران، بقدرهما وجلالهما، وهيبة طلعتهما. ينحني رشوم محيياً لهما. ما هذه المصادفة الخارقة، أمير الشعراء وشاعر القطرين في آن واحد، الأول على بعد كرسي واحد، والثاني على بعد كرسيين؟! ما هذه الليلة الأنيسة المزدهية بنجمين ساطعين؟! أَوَليس في إطلالتهما وحدها بيان يَجّل في البيان والتبيين؟! وبحر صاخب يتلاطم بالأجساد ويضطرب بالأنفاس. سبحان الخالق، خالق الخلق.
الآلات تتوازن وتتهيأ، الأستاذ نخله المطرجي الحلبي على القانون، إبراهيم السهلون على الكمان، أمين البزرى على الناي، والليثي على العود؛ يومئون بالتحيات إلى معارفهم ومحبيهم. يستهلون السلطنة بالتقاسيم وبعض المعزوفات. في الوسط مقعد شاغر.
فجأة، وجَّ ضجيج، على أثره، هاجت صفوف الناس وماجت. رمى بطرفه إلى البعيد، فلمحه يتخطر، متخللاً أمواج الصفوف العالية والواطية، عبده الحامولي ببذلته الإفرنجية والياقة البيضاء والببيونة السوداء، معتدل القامة، أسمر الوجه، كثيف الحاجبين، بهي الطلة، والطربوش على رأسه. يمخر عباب الموج الزاخر بالبشر، يرفع يده ويرد التحيات بأحسن منها، ثم يستوي على التخت جالساً في مقعده، يحرك بأصابعه حبات سبحته الكهرمانية، ويجيل بصره في البحر الهائج.
تستعد الآلات، الهرج والمرج يتهاديان ويهدأان، يتحللان إلى وشوشات ويسكنان. البشرف يُنشد، صوت عبده يشق سكون الفضاء الداجي والهمس المتلاشي ودياجير العتمة القصية، بموال:
يا ليل ...
وكأنما الليل هبط لتوه مكتملاً، طافحاً بالألق الأدغم، ومطلياً بالبريق الأشهب، مشتعلاً بأصدائهما، مشعلاً هشيم الأرواح والأجساد، وقد أخذتهما شنشة الصوت، يميد فتميد، يميل فتميل، يدنو فتتدانى؛ يرشفون الكلمة ويتمزمزون بالحروف.
قال رشوم، رامش العينين:
" الناس سكارى!!"
أجاب الأستاذ نسيم دون أن يرف له رمش:
" وما هم بسكارى."
يرتقي عبده سلالم الصوت ويشطح، والحضور يتشحطون من خلفه، لا يتم شطراً إلا وتُتَوِّجُه آهة واحدة صاعدة من الصدور والحناجر. يتدرج طالعاً ومجوداً، والتهليل ينبثق عند كل قرار؛ ينعم عليهم بما أنعم الله به عليه، يديرهم كيفما يشاء، ويتحفهم بما يشاء.
لسان الدمع أفصح من بياني وأنت في الفؤاد لابد تعلم
يتفرد ويفرّد. لا شعوذة، إنما هو السحر الحلال!! يهيم ساحر الأفئدة في سماوات الباري، وإذ يحط، يلقي بسحره في الآذان:
أديني صابر على ناري
يصنع ما لا يخطر ببال إنس ولا جان؛ والمطرجي يتأثره بالقانون، وعاصف من سكون يُجّمِدُ الخلق، مشدودة أبصارهم، محبوسة أنفاسهم، على هذه الحال، ثوانٍ أو دقائق؛ وإذ انتبهوا، اكتظ الفضاء بالآهات المتوجعة، ويجأرون كلهم كالبركان بالأدعية.
يرتد عبده صاعداً، يعلو بصوته ويغلو، علواً يفوق ارتفاع طبقات أوتار الآلات، وغلواً يُبكم العود، ويُصمت الناي، يَلحقه الكمان، ثم يتراخى مُجهداً، لا يسعهم مجاراة صوته وسعة حيلته. ومازال عبده صاعداً يلامس بتفننِ بحّته وشهقته مقامات الموسيقا كلها!! فينهض الأستاذ نخلة المطرجي رافعاً يديه إلى الأعلى، الأستاذ نخله (من لا يعرفه؟! أكبر عازفي القانون في مصر) وقد أسقط في يديه، ومن يديه آلته، طارحاً إياها أرضاً، مربوط اليدين، أمام الحامولي:
" خلاص يا سي عبده، أجيب لك منين؟!"
في الاستراحة، انكفأ رشوم على أفكاره، وخلا إلى صوت ما برح يرنق في أسماعه، يغني له، فيترطب به ويتنعنش، يُغْنيه عن الدنيا ومن فيها. يضرب أخماساً بأسداس، هذا والله صوت لم يسمع له مثيلاً في حياته كلها، صوت يغالب الأوهام ويهيج الأسقام، لِم يا ربِ وأنا فرحان تعاودني الأحزان، يطوِّفني في الخيال، يمسدني بالأتراح، ويجلو عني الأمان؟! من أين له الإجابة وهو في خلوة الأخماس والأسداس، عالق فيها بلا جواب؟! لن يخرجه منها سوى الرجل الذي أرسله إليها.
أصل الغرام نظرة.
مطلقاً العنان لصوته على مدارج النغم ومعارج الطرب، يبدل جواب النغمة بالسيكاه، ويتسلطن على الرصد، ينزل متسللاً، ويقفل الدور رصداً!! فيهب الشيخ عبد الرحيم المسلوب، الملحن العظيم، من بين الصفوف، يكاد يشق ثيابه، متحيراً من شدة ذهوله.
" الله أكبر، سبحان الوهاب، سبحان العاطي بلا حساب."
ويأبى الله إلا أن يسرف في العطاء. سبحانك يا رب، تَهبُ عبدك عبده بلا تقتير. أما عبده فلا يبخل بالدمع:
يا دمعتي يا عين.
علية القوم وأكابر الشعراء والأدباء، تتساقط دموعهم متأثرين من سي عبده، متحسرين عليه أم على أنفسهم، أم على الحياة تمضي!! تترقرق الدموع في عيون رشوم. هوامات شقاء عابر وحظ عاثر، أم قلب قُلبٌ يتقلب!! سي عبده، أنا زعلان، أنا مجروح، ولا أعرف لماذا؟! أين كنتَ، بل أنا أين كنتُ؟! ظننت أنه لا تفوتني شاردة ولا واردة، وفاتني الكثير، فاتني سماعك!! من أية أوتار إلهية جدلت حبال صوتك؟! من أية خامة ربانية قدت حنجرتك؟! تاه يسأل، تاه بين الوجوه المصغية والعيون المبللة بالعبرات، وغاب في تساؤلاته؛ وعلى وقع الوجد إنوجد:
يا أهل العجب شوف حبك كواني تعال شوف
الناس، كبيرهم وصغيرهم، بقضهم وقضيضهم؛ مَسَّتهم كهرباء الصوت، وأخذتهم نشوة الطرب، يتمايلون كرجل واحد، أمسكهم زمام النغم، علواً وهبوطاً، ارتفاعاً ونزولاً. التفت إلى جاره الأستاذ نسيم، رآه مشروح الصدر، يتيه طرباً من غير اعتدال، متأسياً بهم، يتوجع ويتوجد، يتأسف ويتمرمر، يهتز ويتهزوز!!
" أستاذ نسيم، مالي أراك تأتي بما يأتيه هؤلاء الذين لا يعرفون للفن قبلة ولا دبرة، وأنت أديب وشاعر مطبوع، أكثر خفة منهم، رغم ما أنت عليه من تضلع في الموسيقا."
" أنتم الشوام، يا أستاذ رشوم مغرمون بالمغنى، وتقدرونه على أصوله. لا تلحف في السؤال، حالك مثل حالي."
" أنا محتار، ولي الحق، إنها المرة الأولى التي أحضر فيها حفلة لعبده. أما أنت، فخبرني لم أنت متحير؟!"
" بل أنا والله أحيَّرُ من ضب. عبده يخاطبنا بأهل العجب وهو الأولى بالعجب. وعجبي لا إعجابي، أنني لا أدري في لفظة العجب التي سمعتها من عبده، لماذا لا أهتدي إلى معرفة كيف علا صوته وانخفض، كيف تجمع وتفرق، تداخل وتمازج، تأصل وتفرع، أوغل وتخلص، توعر وتسهل، أغار وتسلسل؟!"
سيعذره رشوم. هو أيضاً، أودى به العجب في لفظة العجب إلى منتهى العجب. إذ أن لفظة العجب لا تخلو بحد ذاتها من تعجب، عجيب في لونه، عجيب في مضماره، حينما أطلقها سي عبده، كانت والحق يقال عجباً عجاباً، وبلا مراء عجباً لا يدانيه عجب، لم تدع تعجباً لمتعجب. فواعجباه!! ما الذي بلغ بها العجب العجاب، بحيث كانت خاتمة الطرب ومنتهاه، ذروته ومبتغاه، ولم تترك بعدها محلاً لإطراب أو تطريب؟! عجبي!!
لم يسترسل في الدفاع عن عجائب عجيب العجب، أو يبدي مزيداً من الإعجاب والتعجب المعجب في أبوابه ومسالكه ومفاعيله الغريبة والمستغربة. كان سي عبده قد خلفه وراءه، كان سي عبده يأتي بما بعد العجب العجاب:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر
محتوياً الأسماع المشنفة، مهدهداً الأفئدة الملتاعة؛ يُصَدِّع الزفرات، يأسر الألباب ويشحذها شحذاً عميقاً وأليماً.
إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر
معظماً الظاء، حتى خال رشوم نفسه ظمآناً في صحراء، حلقه متيبس، الأشواك علقت في بلعومه، والمصابيح من فوقه شموس تشوطه بألف شواظ وشواظ.
معاذ الله، بل أنت لا الدهر
يُعيد عبده "معاذ الله" ويكررها بنبراتٍ، فزع منها رشوم، واقشعر بدنه رهبة من تقوى داهمته، وسكنت في نفسه، وكأن ما خالجه من لفظ الجلالة، خالجه وحده، أحس به لما تذكره من تقصيره في أداء العبادات، لكن... سبحان الله!! ما الذي يراه؟! أعوذ بالله!! شهق خائفاً، يا للهول، الناس من حوله خروا ساجدين على الأرض تعظيماً لذكر الله. كانوا على امتداد البصر، معجزة ملء النظر.
" هل نحن في مسجد أم سرادق مغنى؟!"
" لا تخامرك المعجزة " ارتفع صوت خليل بك مطران " الناس لوى قلوبها الإيمان، إذ في معاذ الله تجمعت خشية الله، والرجاء في غفرانه؛ ترنم بها سي عبده بقلب ارتوى بالإيمان."
ومازالت تتصل بنياط القلوب، تكويها بنارها ولهبها، نسمة حرّى تطلقها شفتاه، تتقاسمها الأرواح العطشى، وتتيمم بها؛
بل أنتِ لا الدهر
وفي امتدادها، تشرخ صدره، وتحطم أضلاعه، ولا تحقن دمه. سي عبده يتصرف فيه، رفعاً وارتفاعاً، خفضاً وانخفاضاً؛ يلهو به، من مقام إلى مقام؛ ويرمي به، من نغمة إلى نغمة؛ متقلباً، من نعمة إلى نعمة؛ وضياء مبهر يرسله، إلى ضياء أشد، تتخطل فيه امرأة تهرب مختبئة بين أضلاعه المحطمة، وحناياه المظلمة. كم هو مشوق إليها؟! لوعته، تكشفها نغمة رقيقة، وتتستر عليها نغمة حانية؛ وبين النعمة والنعمة، تتراءى نغمة صارخة تجهر في مكمنها بسكونها، وتجرحه جرحاً قاتلاً.
بل أنتِ لا الدهر
تتبدى مزدانة: خوافيها، رقش الصوت؛ وخفاياها، زخارفه؛ ترميه في صميم روحه، بلا رحمة؛ تصيب منه، بلا شفقة، وريد الحياة. حالاً يصرخ، بين العذاب والموت بصوت يتضور فرقاً وعشقاً.
" ارحمني يا سي عبده."
يتلفت مذعوراً باحثاً عن نجدة، عن منقذ، عن منفذ، إزاء سد هائل من البشر والحجر؛ يعتصره البشر، ويقرع رأسه الحجر، فيفتح عينيه على الورق!! ما أنا، يقول، إلا أسير صفحات من كلمات وأسطر وفراغات. يناديه شوقي بك، فلا يرد، أمير الشعراء يعترضه، دافعاً في صدره مقبض عصاه الأبنوس، حاجزاً بينه وبين سطور النجاة، يقف وقفة شاعر وأمير، يرفع يده نحو الليل الواقف على عتبة الفجر، وسي عبده الواقف على محراب الغناء، ويشرح شوقي الحالين شعراً:
يسمع الليل منه، في الفجر يا ليل فيصغي مستمهلاً في فراره
ثم يلقي السؤال كلاماً:
" علام تهرب والليل يتمهل؟!"
" عبده يعذبني."
" إنما أرواحنا التي تعذبنا."
في مؤخرة السرادق، لاح باب، باب بعيد، ركض إليه، فراوح في مكانه، والباب يتباعد، وعصا شوقي على وشك أن تطوله في قذاله، ينقذف إلى الباب، فيفتحه.
رد مع اقتباس