عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 19/08/2010, 23h09
الصورة الرمزية عاشق رفعت
عاشق رفعت عاشق رفعت غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:441170
 
تاريخ التسجيل: juillet 2009
الجنسية: تونسية
الإقامة: تونس
العمر: 46
المشاركات: 388
Arrow أطوار الغناء الريفي العراقي

خصوصية الغناء الريفي العراقي وخصوبته
صلاح حسن -إيلاف:
تقول الحكمة السومرية المكتوبة بالخط المسماري على لوح الطين : " حيث ما تغمر المياه الأرض ينمو الخير وتخرج أجنحة السعادة إلى الوجود" . هكذا يتجلى الإرث الحضاري للجنوب العراقي الذي شيدت على أرضه أهم الحضارات البشرية مثل السومرية والبابلية والاكدية. فقد ظل الغناء الريفي في جنوب العراق متأثرًا بالبيئة التي احتضنته بسهلها وخصوبة أرضها والأنهار التي ارتوت منها . الطبيعة الفريدة في الجنوب لا نجدها في أي بلد في المنطقة وأهم عناصرها الاهوار والمساحات المائية التي تشكلت عبر آلاف السنين . تميز إنسان الاهوار بنمط اقتصادي واجتماعي وحضاري معين ، فنباتاته وحيواناته متميزة وليست في العالـم العربي أقاليم كثيرة مماثلة له حيث يوجد في الجنوب وعلى حافات الأنهار والاهوار أفضل أنواع النخيل في العالم في محافظتي ذي قار وميسان . بحدود 8350 كيلومترًا مربعًا موزعة على الاهوار الثلاثة ( هور الحمار والحويزة اهوار القرنة ) وألان تمت إعادة ما يقارب من 3350 كيلومترا أي ما يصل إلى 40%.
أما في البصرة ملتقى نهري دجلة والفرات اللذين يشكلان شط العرب فتعد من المناطق الأكثر خصوبة في العالم، لذا تجد الصورة والمفردة الشعرية في الأغنية الجنوبية ليست كمثيلتها في المناطق الأخرى. تحت تأثير هذا التكوين الطبيعي والبيئي تكيفت أصوات المغنين بالفطرة لتأتي منسجمة مع إيقاع الحياة العام ومنسجمة نغميًا مع أصوات الطبيعة المائية الخضراء. إما الإرث الموسيقي للمنطقة فقد تجلى باكتشاف أول الآلات الموسيقية مثل القيثارة في الحضارة السومرية ( أكثر من 7 آلاف سنة ) والتي تعد اقدم آلة موسيقية وترية عرفها الإنسان وآلة العود في الحضارة الاكدية وهي أول آلة موسيقية ذات ذراع عرفها الإنسان (4500 سنة ) .
لا بد لنا أن نعرف أن انسياب القارب البطيء والمنزلق بسلاسة على مياه الاهوار باعتباره الوسيلة الأهم للتنقل هناك ، هذه الحركة الإيقاعية الحياتية اليومية لا بد لها أن تخلق إيقاعًا بطيئًا انسيابيًا في الموسيقى يختلف عن إيقاع المدينة الصاخب ويختلف عن أي إيقاع آخر في أي ريف آخر سواء كان جبليا أو صحراويًا. لا بد لهذه الطبيعة الجغرافية ان تخلق نغمة موسيقية ممدودة و طويلة بسبب الأفق المفتوح الذي لا ينتج الكثير من الترددات الصوتية ولكنه يصدر امتدادًا صوتيًا مستمرًا وطويلاً في حالة الغناء او التصويت على العكس منه في المناطق الصحراوية ذات الأفق الواسع وألا رضية الرملية التي تمتص الصوت فلا ترددات ولا امتداد صوتي، أما في المناطق الريفية او الجبلية فالترددات الصوتية كثيرة بسبب الصدى الذي تعكسه الجبال. بهذا المثال الذي يُرينا كيف يكون للبيئة الدور المتميز في تكون الموسيقى نستطيع أن ندرك سر اختلاف الموسيقى الريفية الجنوبية العراقية وتفردها عن الألوان الموسيقية الأخرى في العراق والوطن العربي .
المقامات و الأطوار الريفية
تسمى المقامات الريفية في العراق بـــ ( الأطوار و مفردها طور) ويذكر أحمد مختار أستاذ الموسيقى في جامعة لندن " أن كلمة طور جاءت من كلمة دور وجمعها ادوار وتعني المقام كما يرد في كتاب الأدوار لصفي الدين الارموي البغدادي (1213-1294 - العصر العباسي ) وقد حرفها لفظاً الموسيقيون الأجانب من غير العرب والعاملين في الموسيقى آنذاك لتصبح (طورا ). لذا فان الأطوار الريفية تعني بالأصل الأدوار الريفية أي المقامات الريفية حيث كان يسمى المقام دورا او شدا او بردة ".
عدد الأطوار الريفية في العراق كثير منها ما اندثر عبر القرون بسبب عدم التوثيق ومنها ما يزال يستخدم إلى يومنا هذا مثل طور الصبي نسبة إلى الديانة الصابئية المندائية في العراق - الملائي نسبة للطقوس الحسينية الملائية – الحياوي - نسبة إلى أهل الحي في محافظة واسط . ومنها ما ابتكر حديثا مثل طور الطويرجاوي نسبة إلى المطرب عبد الأمير الطويرجاوي الذي ينتمي إلى مدينة طويريج قرب محافظة كربلاء – طور جبير الكون وهو اسم شخص عاش في مدينة النجف خلال النصف الأول من القرن العشرين، ألشطري نسبة إلى حي الشطرة في محافظة ذي قار.
تمتاز الأطوار الريفية عن المقامات العربية والشرقية لأنها إما أن تكون لها درجة استقرار خاصة مثل طور الحجاز عياش أو طور المحمداوي، أو أن تكون لها مسافات خاصة مثل طور اللامي وهو سلم موسيقي يعود إلى العصر العباسي ويختلف عن كل مسافات المقامات العربية . الاختلاف الثالث هو روحية الأداء و التركيز على نغمات خاصة في الطور دون غيره مثل الغفلي .
الآلات الموسيقية
(المطبج والناي) أهم الآلات التي اعتمد عليه الغناء الريفي من القرن الرابع عشر إلى القرن التاسع عشر . والمطبج يصنع من الخشب وهو عبارة عن قصبتين لا يتعدى طولهما 20 سنتمترا يربطان سوية وينفخان بالفم مثل العزف على آلة الناي . ومن خلال الثقوب وبملامسة الأصابع لها يخرج اللحن أما أصل هذه الآلة فيعود إلى الحضارة الأشورية.
اعتمد الغناء الريفي إيقاعيا على آلة (الدنبك) وهو آلة إيقاعية أكثر شيوعاً في الغناء الريفي يشبه الطبلة في الموسيقى العربية اليوم ولكن الدمبك يصنع من الفخار ومفتوح من الجهتين فوهته الكبيرة تغطى بالجلد المدبوغ . كما يسمون آلة (الخشبة) الإيقاعية و هي عبارة عن اسطوانة من الخشب بقطر 5 سنتمترات مفتوحة من الجانبين و ضيقة من الوسط تغطى إحدى فتحاتها بجلد السمك الرقيق جدا .
ظل الغناء الريفي مغيبا لأسباب كثيرة رغم وجود الكثير من المطربين الكبار والموهوبين الذين ابتكروا أنماطا غنائية حديثة من صلب البيئة الريفية وادخلوا في غناء الريف ألوانا كثيرة من الشعر الشعبي والفصيح والموشح . ووضع بعض المطربين ألحانهم بأنفسهم رغم أنها كانت بسيطة التكوين أي اقل من اوكتاف موسيقي او بضع علامات موسيقية و ذات مقام واحد او مقامين في أفضل الأحوال . لكن تلك الألحان كانت شجية و معبرة ومليئة بالعاطفة وبساطة تركيبها كان يجاري البساطة في الأغنية العربية خلال القرن التاسع عشر وبداية العشرين .
انحسار وانتشار الغناء الريفي
السبب الهام الذي جعل الغناء الريفي ينحسر كل هذه الفترة البعيدة حتى بداية القرن العشرين هو انعدام وسائل الإعلام وعدم توفر المدارس الموسيقية في كل أنحاء العراق وعدم اكتشاف تقنيات التسجيل . أما في العقد الثاني من القرن العشرين و بسبب توفر وسائل الإعلام المسموعة ومن ثم المرئية استطاع الغناء الريفي في العراق أن يحقق بعض الانتشار . رغم ذلك ظل الغناء الريفي يعاني من التغييب منذ منتصف الخمسينيات لأسباب سياسية ، قياسا إلى المقام العراقي و الموسيقى الغربية التي دخلت العراق مع الاحتلال البريطاني في العشرينات وأخذت حيزاً كبير في الإعلام و التعليم والمهرجانات والمحافل الموسيقية الدولية. وبسبب الهجرة من الريف إلى المدينة منتصف الأربعينات عرف الغناء الجنوبي الانتشار وانحسر دور الألوان الأخرى . في منتصف الستينات والسبعينات ظهر مطربون وملحنون وشعراء يستندون إلى ارث الغناء الجنوبي مثل سعدون جابر ، حسين نعمة و فاضل عواد ، ياس خضر ، فؤاد سالم ، قحطان العطار، رياض احمد، حميد منصور استطاعوا أن يثبتوا إمكاناتهم وأن يأخذوا مكانهم الصحيح . في هذه الفترة ظهر العصر الذهبي للأغنية العرقية حيث اعتمدت على قصيدة عميقة تحمل هموم الجنوب وحكمته ، قصيدة بعيدة عن ترف المدينة أصبحت لها مقدمة موسيقية طويلة ولوازم تتخلل الأغنية . مساحات الصوت الريفي أوسع من غيره بسبب التكوين الجغرافي وتعدد المقامات والإيقاعات. فالمقارنة البسيطة بين أغنية ( يا طيور الطايرة) وبين أغنية ( طالعة من بين أبوها) يجعلنا ندرك أن الأولى تحتوي على أربعة مقامات و ثلاثة إيقاعات، أما الثانية فهي ذات إيقاع ومقام واحد كما يشير إلى ذلك احمد مختار في واحد من بحوثه .
أسماء مهمة ظهرت
من ارض الحضارات مدينة الناصرية (ذي قار) ومدينة العمارة ( ميسان) حيث توفرت كل الظروف البيئية و الطبيعية ظهرت أصوات جميلة مثل (جخير سلطان) التي وجدت شركة (بيضفون) صعوبة كبيرة في البحث عنه وإحضاره للتسجيل لأنه كان يعيش في قرية نائية .جاءت به إلى بغداد وكان قد ابتكر أسلوبا في الغناء الريفي رغم انه يغني بالفطرة و لا يعرف على أية نغمة أو مقام يغني .
و من أبرز الأسماء التي اشتهرت من الناصرية ناصر حكيم الذي اشتهر بصوته العالي الجهور وكان شاعراً وملحناً وله أغان مهمة في الغناء الريفي . حضيري بو عزيز, مسعود العمارتلي والمطرب الريفي الكبير داخل حسن . وقد عاش هؤلاء في الفترة الزمنية نفسها وكان داخل حسن الأكثر قبولاً من قبل شركة بيضفون بسبب خامة صوته النادرة التي تمتلك ترددات صوتية توحي بأنها أكثر من صوت في آن واحد مما يصطلح عليه في العراق (البحة) أو التطويح حيث حصل على حيز جيد في مجال التسجيل . ثم تسارعت إليه الشركات لأنه يمتاز بحنجرة غريبة إضافة إلى إحساسه العالي بالجملة الموسيقية والشعر الذي يغنيه رغم انه كان رجلاً أميا لكن مطرباً ذكياً بالفطرة . وفي عام 1948 شارك داخل حسن في التظاهرة التي تندد بتقسيم فلسطين حيث رفعه الجمهور ليغني أغنيته المشهورة ( أنا العربي تعرفوني ) واثر ذلك فصل من دار الإذاعة . لكن بعد ثلاثة أشهر يتوسط له محبو غنائه ويخرج من السجن ويعاد إلى دار الإذاعة . يمتاز داخل حسن بقدرته على اختيار شعر يدخل إلى القلوب بسلاسة كما يمتاز بذاكرة فهو يجيد غناء كل الأطوار الريفية وبأداء متقن غنى طور الشطري والمستطيل و المخالف والعياش حجاز والحياوي . أما طور المحمداوي فلم يغنيه بكثرة لأنه كان من اختصاص مدينة العمارة أمثال مسعود العمارتلي وسلمان المنكوب و فرج وهاب .
أما الفنان حضيري بوعزيز فهو لا يقل شأناً عن زملائه ، كان خياطاً في سوق الشيوخ يقضي نهاره بالغناء حتى مل منه أستاذه وأبعده عن الدكان فركب ناصية الفن التي أوصلته إلى الشهرة وله حكايات طريفة من خلال الأغاني التي ألفها ولحنها وقام بأدائها. لكنه اشتهر بأداء (الصبّي) والصبّي من نغمة النهاوند ويقرأ بالابوذية و ينسب هذا الطور الى (الصابئة) فسمي باسمهم .
مسعود العمارتلي هو من سكان مدينة (ميسان) العمارة وأسلوبه في الغناء يعتمد على أطوار اشتهرت بها العمارة وطبقة صوته عالية جدا حيث تقول المصادر المحكية ان مسعود العمارتلي امرأة وليس رجلاً . امرأة كانت تعمل في بيت احد شيوخ مدينة ميسان نبغت منذ طفولتها بالغناء وكان لها صوت جميل وهي تحفظ الأطوار الريفية المتداولة في ذلك الوقت وتؤديها أداء متقناً وبسبب التقاليد حرمت من الغناء. ولأنها عشقت الغناء وبسبب ميلها الرجالي وصوتها المتميز الذي دعا الجميع الى تشجيعها أصبحت مسعود العمارتلي وارتدت ملابس الرجال وصار لها اسطوانات عديدة تحتوي على اغلب الأطوار الريفية وأغان تعد من صلب التراث الريفي واكتشف أمر العمارتلي بعد ان حقق شهرة كبيرة . لأهل العمارة مطربون كثيرون ولهم نغمة خاصة بهم تسمى طور (المحمداوي) فبالإضافة إلى سمته الخاصة فهو يعتمد على نغمة الصبا ممتزجة بنغمة اللامي . وله سبعة أوجه فكل عشيرة تقرأه بشكل يختلف عن العشيرة الأخرى بالإضافة الى طور (الصبّي).
عبد الأمير الطويرجاوي مطرب استطاع أن يجمع بين والغناء الريفي و المقام البغدادي حين ترك مدينته القريبة من محافظة كربلاء و اتجه الى بغداد ، و قد نال أسلوبه استحسان الريف والمدينة .
دخول الآلات الحديثة
أدخلت آلة الكمان والعود وصارت مستخدمة في الغناء الريفي الجنوبي العراقي في العشرينات و الثلاثينات أما في الخمسينات من القرن العشرين فقد نبغ موسيقيون كان لهم الأثر الكبير على كل المطربين وعلى مدرسة الغناء الريفي ككل . من هؤلاء الفنان فالح حسن عازف كمان مبدع عرف عنه إلمامه بكافة أطوار غناء الابوذية وخاصة التي ترتكز منها على مقامي البيات والصبا مثل طور المحمداوي والغافلي والمستطيل وغيرها . وللفنان فالح حسن اثر كبير في ديمومة وتطور الغناء الريفي لعدة أسباب لعل من أبرزها :-
1- قيادته للفرقة الموسيقية المصاحبة للمطرب الريفي وهو المتعلم الموسيقي الوحيد بينهم.
2-توجيه المطرب أثناء الغناء ووضعه على مسار الطور وبخاصة للمطربين قليلي الخبرة.
3-ابتدع أسلوب التوثيق في الأغنية الريفية العراقية حيث كان بصوته العذب يوثق في مقدمة التسجيل لتاريخ ومكان التسجيل إضافة إلى اسم المطرب والملحن والشاعر وكذلك الحضور.
4-ابتدع أسلوب إدخال مقطوعة موسيقية لأغنية سائدة أثناء تأدية المطرب وذلك لإراحته وكذلك لينقل المستمع من أجواء الشجن إلى أجواء الطرب .
5- تدريب وتوجيه العازفين الشباب .
6- كان نجمًا متألقا في العديد من البرامج واللقاءات التلفزيونية .
بقي أن نعرف بأن الفنان فالح حسن إضافة إلى موهبته الفطرية فقد درس أصول العزف على آلة الكمان في معهد الأمل ببغداد.
__________________
لا يحصي فضلك ناثر أو كاتب * * * عددا ولا الشعراء يا غوث الندى
رد مع اقتباس