عرض مشاركة واحدة
  #73  
قديم 23/03/2011, 16h24
كريمة عطار كريمة عطار غير متصل  
كريمة العطاء
رقم العضوية:473237
 
تاريخ التسجيل: novembre 2009
الجنسية: عراقية
الإقامة: فلسطين
العمر: 93
المشاركات: 473
افتراضي رد: الاحتفالية الكبرى لمئوية ميلاد الفنان عزيز علي

المجهود الرائع الذي بذل وما زال يبذل في الاحتفالية الكبري لمئوية ميلاد الفنان الكبير عزيز علي، يستحق كل شكر وكل تقدير. ان المواد الغزيرة التي رفعت حتى الان هي وثائق ذات قيمة تاريخية بالغة الاهمية حول نوع من الفن يمكن القول ان عزيز علي انفرد فيه، بل ارتفع به الى مستوى عال جعله من الظواهر الخالدة في تاريخ الفن العراقي.

في ثلاثينات القرن الماضي كنت في عهد الطفولة، ومع ذلك فاني لا ازال اتذكر كيف كان افراد عائلتي الكبار يتهيأون ويجلسون حول جهاز الراديو ترقبا لموعد اذاعة مونولوجات عزيز علي، تلك المونولوجات التي بقيت كلماتها مطبوعة في اذهان العراقيين سنين طويلة، ليس للترنم بالحانها ، بل لترديد كلماتها المعبرة تعبيرا عميقا عن احساسات الانسان العراقي ومعاناته.
وفي ذلك اليوم العصيب الذى انتقل فيه فناننا الكبير الى رحمة ربه، شعرت، وانا في الغربة، بان صفحة هامة من تاريخ فنوننا قد طويت، بل ان واحدا من بناة تراثنا قد غاب عنا. لقد غاب عزيز علي ولكنه لم يغب، لانه كما يقول المثل العامي العراقي " اللي خلّف ما مات" ، وعزيز علي خلف تراثا فريدا خالدا. ولعل المقال التالي الذي نشرته صحيفة الحياة الصادرة في لندن في 11/2/1996 عن عزيز علي بعد وفاته، يعبر عن الكثير مما اشعر به تجاه هذا الفنان الكبير.
المونولوجست عزيز علي: مات ، فحضر العراق
بقلم الاديبة العراقية فاطمة المحسن

حين شاهدت المنلوجست عزيز علي اول مرة على شاشة التلفاز ببغداد خيل اليّ آنذاك شبها بينه وبين شارلي شابلن. ارتفاع غير ظاهر في اسنانه العليا. وجنتان بارزتان. عينان ضيقتان تبرقان بفطنة ممزوجة بسخرية. كان يبتسم بحياء مصطنع، كما تراءى اليّ. او ربما لان الصورتين تداخلتا في ذهني، فشابلن، هذا الماكر الجميل، كان يبتسم بحياء مصطنع.

كان شابلن يمشي كمن يخطو على الماء، بعصاه وبدلته المهلهلة وقامته الضئيلة. وكان عزيز علي يتنقل بخفة وهدوء مهيب بقامته الطويلة الممشوقة. ولكن تلك الحركة الخفيفة المتباطئة، وتلك الومضة التي تبرق بين عيني نسر، كانتا تديران عالما مكتظا بالنكتة السوداء. انه يطلق اغانيه الساخرة كمن يطلق طيورا حبيسة من اقفاصها. فهو يقول كلاما بسيطا لا يبعث على الطرب، تتوارد على شفتيه امثال شعبية وتوريات يومية لكلام الناس. مفارقات في اللغة، طباق وجناس وكل الاعيب الكلام الشعبي. هو يديرها بعقل مثقف، عقل بدا وكانه يلعب بين فسحة ثمينة من الوقت، فهو من جيل الربع الاول من القرن العشرين، ولم تكن الحكومة قد احكمت قبضتها على الاعلام بعد.

كان الوعي النخبوي يختبر ذاته عبر صوت الليبرالية الغربية المسموع. يخوض جولات صحافة حرة ومجالس للجدل وبرلمانا ملزم بان يتشبه بالبرلمان البريطاني. عزيز علي لم يغفل، كما لم يغفل الرصافي والكثير من المثقفين المعترضين، ما في تلك المظاهر الديموقراطية من خلل خطير. ولكن كلمتهم كانت تصل الى الناس. تنفذ عبر لعبة الديموقراطيةالتي كانت تلعبها الحكومةآنذاك. كان هذا الوعي يتقدم بين تلك الفواصل الخطيرة من وقت رجراج يضيق بهامش الحرية عندما يطفح الكيل بالناس فتهب في تظاهرات وانتفاضات ويعود الى الانفراج عندما يهدأالناس.

في الثلاثينات وتحديدا بعد افتتاح الاذاعة العراقية، بدأ عزيز علي يكتب ويغني منولوجا، وهو فن ادخله اول مرة الى العراق. وما اعتاد مغنونا الا ان يقولوا كلام الهجر والوصال والعشق. وكان المقام العراقي يمثل في بعض كلامه الفصيح، ظاهرة تعلو على تلك الالحان الشعبية التي توزعت بين الطرب البغدادي واغاني الريف المغرقة في حزنها. في كل اربعاء كان يتجمهر الناس حول المذياع بانتظار صوته. كل واحد فيهم يدخل طقسا كان يصعب عليه دخوله في السابق. عزيز علي كان يدعوهم للتواطؤ ضد الكبار، للتنفيس عن كرب بالانتقام الكلامي. وما اعتاد عزيز علي الا ان يقول كلاما صعبا بمدلوله السياسي، هاجيا الحكومة، الاستعمار البريطاني، الفساد، الرشوة، المحسوبية، والفرقة الطائفية، الديموقراطية المزيفة، عادات محدثي النعمة وابناء الذوات، والبطالة والفقر والامراض التي يئن منها المجتمع. منع عزيز علي مرات من الغناء، وحجب صوته، وعاد، ثم اعتقل ومنع مرة اخرى. وفي كل مرة كان الابناء يتناقلون ارث الاعجاب به من الاباء، فما كان عزيز علي مغنيا عابرا في حياة العراقيين، بل كان سياسيا يهم بدخول برلمان. وكما هو البرلمان امنية صعبة التحقق في حياتنا، كان عزيز علي يلعب هذه اللعبة المستحيلة، فيستجيب العراقيون بكل ما يملكون من مخيلة تكتظ بالشوق اليه.

كانت اغاني عزيز علي حمالة اوجه مختلفة، فعدا مهمتها التنويرية – كما ارادها هو – كانت تلك الاغاني تمثل يقظة الوعي الشعبي بذاته، توق الناس لكي يسمعوا السياسة عبر لغة لا تتفاصح عليهم. وكان من الصعب ان يحمل الناس المغني على محمل الجد كمحرض سياسي، فمكونات الوعي الاجتماعي آنذاك كانت قاصرة عن ان تتصور المغني خارج ماضي الملاهي الليلية واماكن الطرب الرخيصة. ولكن عزيز علي بدأ في وقت ثار الجدل معه حول اهمية الكلام الشعبي واللغة اليومية، بين المثقفين انفسهم. وكانت افكار الاقتراب من الموروث الشعبي عبر المحكية العراقية مرتبطة بظهور نزعة الذات العراقية التي بدأت تبرز كهوية تتمايز عن محيطها السابق. ومع ان عزيز علي كان عروبيا وكان بعض منولوجاته عن فلسطين والعروبة بالفصحى، بيد ان شغله على العامية العراقية كان جزءا من ادراكه دورها في النفاذ الى اكبر جمهور يستطيع الوصول اليه : من بائع البسطة الى ربة البيت، دون ان يغفل عن دوره الاخر كمثقف نأى بالاغنية السياسية الساخرة عن التهريج والابتذال.

في كل مرة يأتي ذكر عزيز علي، يتبادر الى الذهن سؤال مهم : كيف استطاع ان يصل الى هذا المقام الصعب برهافة العبور على خط التوازن الدقيق، موحدا بين مزاج الوعي الشعبي والذائقة الرفيعة؟

ربما يسهل الاجابة ادراكنا سر نجاح شارلي شابلن. فالفن الجميل يخلق من مكونات فرجة بسيطة شيئا ثمينا. هو السهل الممتنع الذي يتذوقه الطفل ويفهم مغزاه الفيلسوف.

مات عزيز علي بعد ان امضى في السجن سبع سنوات بتهمة ملفقة، وكان قبلها يعيش حياة شحيحة لم تعرف التكريم والوفاء عبر كل العهود.

مات عزيز علي فحضر العراق عند العراقيين، تلك البلاد البعيدة التي حلمت مثلما تحلم بقية الاوطان.