الموضوع: مقالات و بحوث
عرض مشاركة واحدة
  #16  
قديم 11/05/2007, 08h29
akadnan akadnan غير متصل  
ضيف سماعي
رقم العضوية:14634
 
تاريخ التسجيل: février 2007
الجنسية: عراقية
الإقامة: العراق
العمر: 63
المشاركات: 2
افتراضي مقالات

موسيقار الأجيال.. محمد عبد الوهاب
مرت ذكرى محمد عبد الوهاب الـ15 في 4 مايو الماضي، جاءت في ظل ضجيج فيلم عبد الحليم حافظ فلم تأخذ حقها إلا بلقاء عابر مع ابنه المهندس محمد محمد عبد الوهاب، الذي أكد بوقار شديد حقيقة أن 1901 هي سنة مولد والده، يعني أن عبد الوهاب توفاه الله وهو في التسعين بالتمام والكمال، وكان يعلق على كل من يقول له: «الله يعطيك الصحة»، بقوله: «هو قصده يقول إنت لسه عايش»!
ولدت وعبد الوهاب نهر جار، إذا نظرت خلفي لا أرى له بداية وإذا نظرت أمامي وجدته ممتدا، وإذا نظرت حولي كان محيطا بي من كل جانب، جيلي بالذات ـ مواليد الثلاثينات ـ هو الجيل الذي عرف وألمّ بكل أطوار عبد الوهاب وارتبطت معظم لحظات حياته بأغنية أو نشيد من أغنيات وأناشيد عبد الوهاب:
«إلام الخلف بينكمو إلاما، وهذي الضجة الكبرى علاما، وفيما يكيد بعضكمو لبعض، وتبدون العداوة والخصاما، وأين الفوز لا مصر استقرت على حال ولا السودان داما، وأين ذهبتمو بالحق لما ركبتم في قضيته الظلاما، شببتم بينكم في القطر نارا على محتله كانت سلاما، شهيد الحق قم تره يتيما بأرض ضيعت فيها اليتامى..».
في طفولتي قبل سن العاشرة كنت أردد هذه القصيدة تلحين وغناء عبد الوهاب وأبكي خاصة عند المقطع الشجي المطرب: «وأين ذهبتمو بالحق لما...» كنت أغنيها وأحب صوتي عند هذا المقطع بالذات وأكرره وأكرره وأكرره، كأني أخطب في حشد، وكانت مظاهرات الأربعينات من القرن الماضي تشتد: «الجلاء بالدماء» وعبد الوهاب في المذياع ينشد:
«هتف الداعي ونادى للجهاد، أي بشرى... كل مصري ينادى، أنا ملك لبلادي.. قلبي يميني لساني روحي فدا أوطاني، كان الجهاد أماني واليوم يوم الجهاد...».
ويغني أيضا: «مصر نادتنا فلبينا نداها وتسابقنا صفوفا في هواها...».
وأنا ما زلت طفلة دون العاشرة لكني أحفظ الكلام وأغنية بالفصحى وأبكي، وكان هناك نشيد: «أيها الخفاق في مسرى الهوى!» فكنت أسمعه: «أيها الخفاق في مصر الهوى»! وأغنيه بفهم خاص لا علاقة له بأصل النشيد، ويشتد بي الحماس وأنا أردد بإصرار «مصر الهوى»، وكان لنا جار كفيف يهودي اسمه داوود زكي وهبة، وينادونه «دودو»، كان «دودو» يحب عبد الوهاب ولا يتكلم بلهجة أهله بل يحمل عوده في رواحه ومجيئه ويتكلم لهجتنا ويغني ليلا في البلكونة بصوت جميل أنشودة الفن: «الدنيا ليل والنجوم طالعة تنورها» وحفظت اللحن من «دودو» من كثرة ترديده الأنشودة لكني كنت أقول «نجوم تغري النجوم من حسن منظرها»، بدلا من الصحيح وهو «نجوم تغير النجوم من حسن منظرها» وكنت قد بلغت العاشرة عندما غنى عبد الوهاب «أخي جاوز الظالمون المدى...» وتصورت أنني يمكن أن أسمعها من «دودو» كذلك، فهي جميلة و«دودو» ذواقة لكنه لم يغنها أبدا رغم أنه لم يهاجر مثل بقية الجيران اليهود وظل بمصر إلى أن مات. وأنا دون العاشرة لم أر فيلما لعبد الوهاب ولكني كنت أسمع بعض الأفلام في المذياع. بهرني فيلم «لست ملاكا» وحفظت وقتها كل أغانيه، وهو يكاد يكون آخر أفلامه التي لعب فيها دورا رئيسيا حيث أنه لم يظهر في فيلم «غزل البنات» إلا كضيف شرف، يغني «ليه ليه يا ليل ليلي طال... ليه ليه يا عين دمعي سال....». إحساسي بأغنية «ليه ليه»، أنها أغنية جديدة! رغم أنها منذ عام 1950، في صباي بعد عام 1952 لم أحب أغنيات عبد الوهاب ابنة المرحلة، كنت أحس أنها مسلوقة. واشتد تعلقي بعبد الوهاب ما قبل ميلادي 1937، عبد الوهاب «كلنا نحب القمر والقمر بيحب مين؟» وكنت أغنيها «كلنا نحب القمر والقمر يحب إبراهيم» إشارة إلى أخي الحبيب. كان لدينا فونوغراف قديم واسطوانات قديمة لسيد درويش وأم كلثوم في مرحلة «إن كنت أسامح وأنسى الأسية» ومجموعة لعبد الوهاب تغطي مرحلة «خايف أقول اللي في قلبي» و«على غصون البان» و«أنا أنطنيو»...إلخ، لم تكن الإذاعة تذيع مثل هذه الأغنيات بما يشفي غليلي فكنت أحبس نفسي بالساعات مع الفونوغراف وعبد الوهاب القديم وأخرج لصديقاتي بالجامعة وهن يدندن بـ«كل ده كان ليه لما شفت عنيه» وأنا غارقة في أجواء «الليل يطول عليه...» و«مريت على بيت الحبايب» و«مين عذبك بتخلصه مني» و«حسدوني وباين في عنيهم» و«مضناك جفاه مرقده...»، وظلت «الجندول» و«الكرنك» و«همسة حائرة» و«الحبيب المجهول» و«كيلوباترا» كأنها المعلقات تعصر قلوبنا وجدا وتمتزج في مخزون الذاكرة وتداعياتها برائحة الفل والياسمين وعبق التمر حنة والحب الصامت وليالي امتحانات آخر السنة.
لم يكن العقاد يحب عبد الوهاب وكان في ندوته يوم الجمعة يسخر منه كلما سنحت الفرصة ويقول توثيقا لرأيه بأن عبد الوهاب مغن ضعيف لا يفهم ما يغني: اسمعوا أغنيته «مين زيك عندي يا خضرا في الرقة يا غصن البان، ما تجودي علي بنظرة وأنا رايح للميدان...» بذمتكم هل يليق هذا اللحن المترقق بموضوع حماسي: ده رايح الميدان وللا رايح ينام؟! وكنا نضحك لتحامل العقاد رحمه الله على عبد الوهاب ونعرف أنه تحامل مكمل لتحامله على أحمد شوقي أمير الشعراء، ولكن هذا لا يمنع أن العقاد كان فعلا قد التقط نقطة ضعف لدى عبد الوهاب، فأغنيته الوطنية والسياسية كانت تميل للإحساس المثير للأشجان أكثر من كونها دفقة حماسية تؤجج النيران، ومثال على ذلك لحنه الراقص لكلمات «دقت ساعة العمل...الثوري»! أغاني أم كلثوم الوطنية تدفعك للقتال دفاعا عن الوطن، أما عبد الوهاب فيدفعك إلى الإحساس الشعري بمعنى الوطن، ولذلك فحتى عندما غنى للملك فاروق جاءت أغنياته طربا وشجونا وامتدادا لمعنى الوطن، ولذلك لم يرض عنه الملك أبدا ولم يمنحه لقب «بك» الذي منحه ليوسف وهبي بعد أوبريت «الأسرة العلوية» في فيلم «غرام وانتقام»، ومنح أم كلثوم لقب «صاحبة العصمة»، أما عبد الوهاب فلم يذق طعم اللقب الذي هفا إليه، لكن الأيام عوضته بغزارة عن لقب «البك» الملكي ليحصل على اللقب الجماهيري «موسيقار الأجيال» الذي استحقه بجدارة، وسيظل ملازما له فوق ألقابه الزائلة، سواء أكانت «مطرب الملوك» أم ذلك اللقب المضحك الذي منحته له الدولة في عصر السادات: «الدكتور اللواء محمد عبد الوهاب»

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 10/05/2009 الساعة 05h18
رد مع اقتباس