الموضوع: مقالات و بحوث
عرض مشاركة واحدة
  #14  
قديم 27/04/2007, 16h34
حسام خليل حسام خليل غير متصل  
ضيف سماعي
رقم العضوية:25471
 
تاريخ التسجيل: avril 2007
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 1
Lightbulb محمد عبد الوهاب . . من الطقطوقة إلى السيمفونية

في برنامج إذاعي يدعى (ساعة زمان) كانت تقدمه الإذاعية (آمال العمدة[على ما أعتقد]) في مطلع السبعينيات من القرن المنصرم، أجريت مناظرة بين موسيقارنا العظيم (محمد عبد الوهاب) وأديبنا الفريد (توفيق الحكيم) ـ وهو عالم بأصول الموسيقى الغربية ـ حول تطور الموسيقى العربية.

بدأ الحديثَ الأستاذ توفيق الحكيم ناقداً الموسيقى الشرقية واصفاً إياها بمجرد خطرات إيحائية بديهية تفتقر إلى التركيب البنائي والتكامل الوظيفي الذي تتميز بهما السيمفونيات والكونشرتات الغربية والتي أبدعها موسيقيو الغرب منذ ما يربو على ثلاثة قرون.

يُذكر في هذا الصدد أن توفيق الحكيم يحكي في (زهرة العمر) إحدى أشهر رواياته، أنه حين أجبر على العودة من فرنسا إلى مصر عقب فشله في نيل درجة الدكتوراة في القانون في مفتتح الثلاثينيات لانشغاله عن الدراسة بالاطلاع العام في شتى مناحي الثقافة. حين عاد إلى مصر، ظل قابعاً في حجرته مكتئباً، لا لفشله المشار إليه آنفاً، ولكن لفراقه قبلة الثقافة آنذاك، حيث متحف اللوفر، ودور الأوبراً على ناصية كل شارع في باريس، والمكتبات العامة التي تضج بها ميادين فرنسا كلها. وبعد مضي فترة ليست قصيرة، خرج ينشد بديلاً عن دور الأوبرا هذه، فلم يجد عنها سوى الملاهي اليلية بديلاً. عمد إلى أحدها، وما لبث أن تركه وهو يردد في نفسه:"صحيح أن المطرب والجمهور في القرن العشرين، ولكن الموسيقى من القرن العاشر بلا ريب".

لا يعني ذلك أنه كره الموسيقى الشرقية قاطبة، فقد أبدى إعجابه بأعمال الأستاذ محمد عبد الوهاب خاصة في الأربعينيات (الكرنك، كليوباترا، قالت، الجندول، عاشق الروح) وغيرها. . وكذا ببعض أعمال أم كلثوم. ولكنه رأى ألا بديل عن المعرفة الأكاديمية بالإضافة إلى الموهبة. ونبه إلى ضرورة تكامل البناء الموسيقي. وأضاف أن محمد عبد الوهاب الذي اعتمد على سليقته الموسيقية العبقرية وعوده الذهبي لن يتكرر مع كل راغب في التلحين حتى لو تمتع بنفس السليقة و عين العود. وأخيراً أوضح أنه لا يحلم بأن تكون الموسيقى الشرقية مطابقة تماماً من الموسيقى الغربية، وإنما ينشد هذا التكامل في ثوب شرقي بديع. وختم بمطالته الموسيقار محمد عبد الوهاب بالمضي قدما بخطى أسرع إلى هذه الغاية.

في رده على ذلك، بدأ الأستاذ محمد عبد الوهاب بشكر الأستاذ توفيق الحكيم والثناء على رأيه واقتراحه. ثم ذكر أنه ـ أي الحكيم ـ يعرف مسبقاً رده على هذا النقد، فهما ـ على حد قول عبد الوهاب ـ أصدقاء منذ أمد بعيد. كما أن الأستاذ توفيق الحكيم له من عمق الرؤية ما تؤهله لتحليل التطور الموسيقي الشرقي، ووضع دور عبد الوهاب حيثما يجب أن يوضع من التقدير.

أوضح الأستاذ عبد الوهاب ظروف الموسيقى الشرقية التي وجدها حين نشأ في بداية القرن العشرين، وكيف أن الموسيقى في حد ذاتها (أعني الآلات الموسيقية) لم يكن لها دور إلا خلق الجو الموحي بالطرب. كانت الموسيقى الشرقية تعتمد كلياً على الإمكانيات الصوتية للمطرب. وكان الشيخ سيد درويش أول من دور الموسيقى كياناً مساعداً للصوت البشري. وعلى غرار هذا الاتجاه، سار محمد عبد الوهاب، فكانت أغانية في النصف الثاني من عشرينات القرن العشرين: (مين عذبك، يا جارة الوادي). . وغيرها.

ويضيف قائلا: لم يكن بد من السير على هذا النحو لتربية أذن المستمع الشرقي (الذي كان يعتبر المقدمات الموسيقية القصيرة إضاعة للوقت). ولو أنه ـ عبد الوهاب ـ قدم للجمهور مقطوعات موسيقية بحته حينئذ، لانتهت حياته الفنية إلى الأبد. على أن هدفه وغايته كانت الرقي إلى سيمفونية شرقية.

إحدى أكبر العقبات التي اعترضت السير نحو هذه الغاية، كانت الانتقال من مرحلة تلحين الحروف (كما في أغنياة الأولى)، إلى تلحين الجمل. وقد نجح في تخطي هذه العقبة بنجاح عظيم. يورد مثالاً على الأغنيات التي لحنها جملا لا حروفاً، فمطلع (الجندول) [أين من عيني هاتيك المجالي] ـ على حد قوله ـ لحنت وكأنما يقرؤها شخص عادي.

استمد الأستاذ عبد الوهاب من هذا النجاح جرأة جعلته يقدم على تأليف أعمال موسيقية بحتة. ولما نجحت هي الأخرى، عمل على دمج هذه المقطوعات في الأغاني، فكانت أغنيات نجاة (أيظن، لا تكذبي ، شكل تاني، مرسال الهوى) وعبد الحليم (منين نبتدي الحكاية، فوق الشوك، فاتت جنبنا) وختمت بأم كلثوم (أنت عمري، إنت الحب، ليلة حب، هذه ليلتي، ودارت الأيام). . وغيرها.

اقترب عبد الوهاب، بمساعدة تلاميذه فريد الأطرش والموجي والطويل وبليغ حمدي مما يصبو إليه. وكان على الجيل التالي إكمال المسيرة.

قدم الجيل التالي آنف الذكر أعمالاً عبقرية في عباءة الأساتذة الكبار. نذكر منهم الأساتذة حلمي بكر وعمار الشريعي وحسن أبو السعود ومحمد علي سليمان . . وغيرهم. لكنهم، وللأسف، لما أوليت إليهم المسئولية، مسئولية التطوير تقاعسوا عنها. لم تتوقف أعمالهم، بل استمرت، ولكنها إما أن تكون مستمدة من ألحان أساتذتهم، وإما أن تكون حديثة ـ بمنظورهم ـ ولكنها ضعيفة لا ترقى إلى أعمالهم السابقة.

توقفت مسيرة السيمفونية الشرقية بوفاة عبد الوهاب. لم تتطور الموسيقى كما كان يحلم هو بل استمرت عند المستوى الذي تركها عليه. ومع توالي السنين، وجد الجمهور أنهم يسمعون أعمالاً حديثة النشأة، قديمة النوع. ومن ثم ظهر جيل لا يعترف بفضل أساتذته، ولا يبدأ من حيث انتهوا، بل اختلق لنفسه بداية مجهولة المصدر، وبنى عليها صرحه. فضاع الأمل في بلوغ السيمفونية الشرقية. وأدى ضياع الأمل الموسيقي إلا ما نحن عليه من التردي الموسيقي الآن.

كتبه/ حسام خليل
رد مع اقتباس