عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 21/01/2009, 23h57
الصورة الرمزية MUNIR MUNIRG
MUNIR MUNIRG MUNIR MUNIRG غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:27439
 
تاريخ التسجيل: mai 2007
الجنسية: Egyptian American
الإقامة: الولايات المتحدة
العمر: 84
المشاركات: 568
افتراضي القدس في ذاكرة الأغنية العربية

القدس في ذاكرة الأغنية العربية (2 من 1)
محمد منصور القدس العربي 21/01/2009
الأغنية الرحبانية تمردت على البكائية باكراً.. و'زهرة المدائن' هزمت عبد الوهاب!
أطلقت الفنانة السورية أصالة نصري مؤخراً، أغنية جديدة عن مدينة (القدس) قالت إنها مهداة للقدس عاصمة للثقافة العربية عام 2009... وأضافت تقول في تصريحات صحافية حول معنى غنائها للقدس:
(أن أغني للقدس فهي مهمة على الصعيدين الإنساني والشخصي، وأن أغني للقدس المكان الحلم الذي أحبه، والمهم بالنسبة لنا كعرب، والذي نتمنى زيارته والصلاة فيه، فأنا اليوم أغني للحلم).
وقد سبق للعديد من كبار الفنانين على امتداد الوطن العربي، أن غنوا للقدس لا كحلم فقط، وإنما كرمز لتعانق الأديان السماوية حيناً، ورمز لمرارة الصراع الطويل الذي طبع تاريخ هذه المدينة منذ الفصول الأولى للنكبة.
واليوم... والقدس تحتفل برمزية اختيارها عاصمة للثقافة العربية عام 2009، وهي تحت الاحتلال والتهويد والاستيطان... تستعيد الذاكرة صورة القدس في الأغنية العربية، حيث تبدو وكأنها المدينة التي جمعت حناجر المطربين العرب... ولونت آذان وأفئدة سامعيهم بالمراثي والألم والحنين.
تشكل التجربة الرحبانية، حجر الزاوية في أغاني القدس والقضية الفلسطينية... ولئن تقدمت بعض المساهمات الفنية المحدودة على هذه التجربة من حيث التسلسل الزمني، فإن ما قدمه الرحابنة مع السيدة فيروز، شكل حالة ريادية على مستوى النوع... ونقطة علام في مسار الذاكرة الطويل منذ قدموا أولى أعمالهم في هذا السياق، مغناة 'راجعون' ولذلك لا بد أن تكون البداية من حالة الإلهام الرحباني، نظراً لتنوع وغزارة الأعمال التي قدمتها في هذا السياق، من جهة، ولقدرتها على البقاء في الوجدان بعد مرور عقود على ظهورها من جهة أخرى!

راجعون.. فن استنهاض الهمم!

تعود علاقة الرحابنة بالقضية الفلسطينية إلى سنوات نشاطهم الاحترافي الأول، ففي العام نفسه الذي شهد زواج عاصي الرحباني بفيروز بعد سنوات قليلة على بداية تعاونهما الفني، كانت أولى الأعمال الغنائية التي لامست قضية فلسطين، تخرج إلى النور بعنوان 'راجعون'.
ويروي الفنان الراحل منصور الرحباني قصة هذا العمل الفني الكبير، فيقول:
(بعد الزواج، جاءت دعوة من إذاعة 'صوت العرب' من القاهرة، فذهبنا.. عاصي وفيروز وأنا، حيث التقينا أحمد سعيد، ووقعنا على عقد لتنفيذ أغان وأناشيد وبرامج خلال مدة ستة أشهر. في تلك الفترة وضعنا 'النهر العظيم' وأعمالا أخرى. وذات يوم قال لي أحمد سعيد: إذا وفرنا لكما طائرة عسكرية إلى غزة هل تذهبان لتسمعا الأغاني الفلسطينية هناك؟! وكنا نخاف الطائرات كثيرا فطلبنا استحضار التسجيلات إلى القاهرة وهكذا كان. استمعنا إليها فإذا فيها نواح واستجداء وشكوى. قلنا له: 'قضية فلسطين لا تعالج هكذا. لا يسترد فلسطين إلا الفلسطينيون لا ابن القاهرة يموت عن القدس، ولا ابن بيروت ولا ابن دمشق' ولتثبيت مقولتنا وضعنا 'راجعون' وما فيها من استنهاض همم الفلسطينيين المشردين وسجلناها بأصوات فيروز وكارم محمود والكورس).
سجل الأخوان رحباني 'راجعون' في إذاعة صوت العرب في القاهرة عام 1955، ويبدو أن التوزيع الذي قدماه، والذي تحتفظ به الإذاعة المصرية لم يكونا راضيين عنه، فأعادا إصدار 'راجعون' عام 1956 على أسطوانة وأطلقا عليها اسم مغناة كما تقول الأسطوانة. لكن الصفحة الأولى من كتاب التوزيع الموسيقي تسميها (عملاً موسيقياً كورالياً) وقد قاد الأوركسترا فيها الموسيقي الشاب آنذاك توفيق الباشا، وأدت فيروز دور الغناء المنفرد، مع مشاركة لميشال بريدي عوضا عن كارم محمود.
والحق أن 'راجعون' تتجاوز الشكل المألوف للأغنية الوطنية، أو حتى البناء الموسيقي الميال للفخامة بالنسبة لفن القصيدة، لتتحول إلى عمل غنائي يقوم على حوار بين الفرد والمجموعة، وبين الصوت والصدى، وبين الأمل وبؤس واقع التشرد وقسوته على اللاجئين الفلسطينيين في تلك الفترة. لكن هذا الحوار المشبع بالأصوات والنبرات التي تصارع واقعها، لا يعمد إلى عرض أفكاره، أو قول معانيه الوطنية في سياق شعري سردي وكفى، بل هو ينطوي على حبكة درامية تكاد تُطوِّع هذا الموضوع الشائك، لتجعل منه نسيجاً رحباني الأسلوب، حيث محاكاة الطبيعة في نبرة رومانسية تضج بالحنين، الذي تعبر عنه أصوات المجموعة، وهي تناجي نسيماً من ربى تلك الديار السليبة:
أنتَ من بلادنا يا نسيمُ
يا عبيراً يقطع المدى
حاملاً همومَ أرضٍ يهيمُ
أهلها في الأرض شُرَّدا
إلا أن هذا المطلع الذي يحاكي طقوس الحنين في الشعر العربي، سرعان ما يتبدل في لحظة انقلاب درامي وموسيقي في آن معا.. ليطرح سؤالا استنكاريا، ينطوي على موقف ثوري أصيل:
هل ننام وشراع الخير حطام
هل ننام ودروب الحق ظلام
ثم تستكمل تلك الحالة الثورية الجنينية التي تحمل الجواب في طيات السؤال الاستنكاري، في مقطع آخر من هذه (المغناة) ذات البناء الموسيقي البديع، الذي يعلي من دراميتها، ويرفع من مكنونات نهوضها:
وقوفاً.. وقوفاً أيها المشردون
وقوفا يا ترى هل تسمعون
ديارُنا من يفتديها؟
من غيرنا يموت فيها؟!
وبين تنويع على نبرة أسى مشوبة بالحنين في مقطع تال: (بلادي زمانا طويلا أذلك الغاصبون) وبين تواصل أكثر اقترابا وتجذرا: (بلادي أطلي قليلا فإننا راجعون) يصل الرحابنة في النهاية إلى جوهر الحقيقة التي يفرضها التشرد، وإلى معنى الأمل الذي يؤسس لفعل المقاومة والأمل بالتحرير:
في الأمطار راجعـون
في الإعصار راجعون
في الشموس في الرياح
في الحقول في البطاح
راجعون.. راجعون.. راجعون
بالإيمـان راجعـون
للأوطان راجعـون
في الرمال والظلال
في الشعاب والتلال
راجعون.. راجعون.. راجعون
وإذا أخذنا بالاعتبار زمن ولادة هذا العمل في منتصف خمسينيات القرن العشرين، وبعد سنوات قليلة على نكبة فلسطين الأولى التي هزمت فيها الجيوش العربية، لأمكن لنا أن نتصور قيمة تلك الرؤية الإبداعية المتحررة من أجواء وشعارات تلك الفترة، والمترفعة موسيقيا وفكريا ودراميا عن كل ما قدم وسيقدم لاحقا لسنوات طويلة.. فهاهنا يولد الموقف الثوري من رحم الحنين الرومانسي، ليعطي للحس الثوري معنى الارتباط بالأرض والبيت والذكرى، لا بالشعار والحماس الأجوف.. ومن هنا فليس غريبا أن تكون 'راجعون' كما رآها الناقد اللبناني نزار مروة، بعد ثلاثين عاما على صدورها، محتفظة بتلك الريادية، حيث وصفها في ندوة عقدت عام 1986 عقب رحيل عاصي الرحباني بأنها كانت (على درجة الفكر الموسيقي الأرقى، يرتفع بالسامع إلى مستوى التجربة) ثم يمضي إلى تقييمها بالقول: (مغناة 'راجعون' من الأعمال القليلة التي انجلت عن معالجة ناجحة لمسألة التعامل مع العناصر الثلاثة: الأوركسترا والصوت، الفرد والمجموعة، بالمعنيين الوظيفي والجمالي. وعلى المستوى الغنائي بخاصة، ينهض حوار مؤثر بين جموع الشعب الممثلة بالكورال، وبين ضميرها في الصوت المفرد فيروز)

الرؤية الرحبانية: محاور ومفردات!

قدم الرحابنة، أحد عشر عملاً غنائياً عن القضية الفلسطينية، عبروا من خلالها عن مفردات شتى، واختزلوا فيها صورا ووقائع وأحداث، بطرق مختلفة ومجددة، ويمكن لنا في ضوء التحليل النقدي، أن نقسم هذه الأعمال ضمن محاور أربعة:
1 ـ التشرد واللجوء: ضمن هذا المحور استحضر الرحابنة معاناة التشرد واللجوء، وركزوا على مأساة الانتظار، باعتبارها جوهر المشكلة الإنسانية التي يواجهها اللاجئون.
الانتظار في أغنيتي: 'غاب نهار آخر' و'احترف الحزن والانتظار' يبدو أشبه بموت بطيء.. فهو يغتال أعمار المنتظرين، ويبدد إحساسهم بالزمن رغم ما يمتلئ به من ترقب، إنه يمارس عنفا خفيا على آمال الناس وأحلامهم في كل آن:
أحترف الحزن والانتظار
أنتظر الآتي ولا يأتي
تبددت زنابق الوقت
عشرون عاما وأنا..
يأكلني الحنين والرجوع.
2 ـ ذاكرة المكان: خص الرحابنة معالم ومدن فلسطين بالعديد من الأغنيات، وبدا الحنين إلى المكان بما يختزنه من ذاكرة وذكريات، محورا هاما سواء في أغنيات مستقلة، أو في أغنيات وجدت في ذاكرة المكان اتكاء شاعرياً، نحو الانطلاق للحديث عن حلم العودة، أو الإيمان بالمقاومة.
في هذا المحور تندرج أغنيات: 'يا ربوع بلادي'و'يافا' و'بيسان' التي صدرت ضمن ألبوم القدس في البال، وتعلو النبرة الشعرية كلمات ولحناً نحو آفاق يرتقي بها صوت فيروز، وخصوصا في 'بيسان' التي يقول مطلعها.
كانت لنا من زمان
بيارةٌ جميلة وضيعةٌ ظليلة
ينام في أفيائها نيسان
ضيعتنا كان اسمها بيسان
خذوني إلى بيسان إلى ضيعتي الشتائية
هناك يشيعُ الحنان على الحفافي الرمادية
3 ـ أغنيات القدس: نظرا للمكانة الخاصة التي تمتعت بها القدس في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي، حظيت القدس باهتمام مميز في سجل الأغنية الرحبانية، وتشكل 'القدس العتيقة' و'زهرة المدائن' إضافة مميزة للأغنية العربية التي استلهمت القدس موضوعا ولحنا. حيث الارتقاء نحو الرمز في صياغة الملامح الجغرافية والتاريخية والدينية لهذه المدينة، وضمن بوتقة فنية ملحمية كما سنبين لاحقا.
4 ـ حلم العودة: لم تخل أغنية رحبانية من الأغنيات التي تحدثت عن فلسطين من مفردات 'العودة' و(الرجوع' وربما أمكن لنا أن نتلمس ملامح هذا الحلم في معظم ما قدمه الرحابنة، إلا أن أغنيات: ('راجعون' و'سنرجع يوما' و'أجراس العودة' (سيف فليشهر) و'جسر العودة' تبقى هي الأكثر تعبيرا عن هذا الحلم، وتأكيدا وإصرارا على إذكائه.

صراع الألم والأمل!

لقد ظل حلم العودة، واحدا من المفردات الأساسية التي صاغت رؤية الرحابنة للقضية الفلسطينية، وقد اقترن هذا الحلم على الدوام بثلاثة عناصر رئيسة:
الأول: النبرة الرومانسية التي تعبر عن الحنين إلى المكان السليب، والذكرى التي تضطرم نيرانها في النفوس كلما أوغل المكان الذي احتضنها في الغياب.
الثاني: البعد التراجيدي الذي يستحضر آلام الغربة ولوعة الانتظار، والذي يعبر عن عمق المأساة بشاعرية راقية، وجلال بعيدا عن البكائية والميلودرامية الفجة.
الثالث: الأمل الراسخ بإمكانية العودة وحتميتها، مهما طال زمن الانتظار.
واللافت أن الرحابنة استطاعوا أن يحققوا في هذا الأعمال فتحا جديدا في مجال (الأغنية الوطنية) فإذا كانت قصيدة 'أجراس العودة' أو 'سيف فليشهر' التي كتبها سعيد عقل، تمثل في بنائها الموسيقي الشكل الشائع للأغنية الوطنية بطابعها الحماسي المليء بالحيوية، والتي استخدمت فيه المارشات العسكرية والأبواق النحاسية في حالة منسجمة مع الطابع العام للقصيدة؛ فإن أغنية 'سنرجع يوما' تمثل في هذا السياق، حالة شديدة الخصوصية في سياق التعبير الغنائي عن مفهوم الأغنية الوطنية، تعبيرا رومانسيا خالصا في الكلمة واللحن والبناء الموسيقي العام، فالحنين هو العنصر المسيطر على الحالة الشعورية للعمل، والتغني بالوطن باعتباره الحي والناس والحب والذكريات.. هو الحجر الأساس الذي يشكل أساس الانتماء لهذا الوطن، خارج الشعارات والأيديولوجيات، لكن الوطن - إلى جانب ذلك كله- هو اليقين الراسخ بالعودة مهما طال الزمن وامتدت المسافات:
سنرجعُ يوماً إلى حينا
ونغرق في دافئات المنى
سنرجع مهما يمر الزمان
وتنأى المسافات ما بيننا.
إن ميزة أي فن عظيم هو بث الأمل وزرع الإيمان في نفوس أصحاب الحقوق، ولقد وعى الرحابنة هذه المسألة فتعاملوا معها باعتبارها يقيناً ثابتاً، يرقى إلى مستوى الحقيقة المطلقة، وغالبا ما تبقى الحقائق المطلقة خارج نطاق التحولات والمتغيرات، وفوق انقلاب موازين القوى.. ولذلك يأتي التعبير عنها راسخاً، وخارج النطاق الزمني المحدود الذي قد يحكم بعض الأعمال والرؤى الفنية.

القدس العتيقة.. ما تبقى من الصورة!

توالى التعبير الغنائي عن فصول القضية الفلسطينية في تجربة الرحابنة والسيدة فيروز، واستمر ذلك البناء الدرامي الذي ميّز اللقطة الشعرية في أغنياتهم، ليعطي لكل أغنية بنية مستقلة، في إطار استلهامها للموضوع، وتعبيرها عن الفكرة التي تنطلق منها، وخصوصا عندما تكون وراء هذه الفكرة، مواقف مؤثرة قد تشكل حالة تحريض ترسم الإطار العام للعمل الغنائي ككل.
ففي عام 1964، زار الأخوان رحباني والسيدة فيروز القدس، وكانت هذه الزيارة محرضاً أساسياً لمجموعة أغنيات سيصدرها الرحابنة لاحقا، ضمن ألبوم 'القدس في البال' وفي أثناء تجوال فيروز في شوارع القدس، استوقفتها سيدة وحكت لها مأساتها وروت فصول معاناتها، فتأثرت فيروز وبكت، فأحبت السيدة الفلسطينية أن تخفف عنها فأعطتها مزهرية ورجعت فيروز وحكت لعاصي الرحباني، فولدت الأغنية التي حملت عنوان 'القدس العتيقة' والتي تقول كلماتها:
مريت بالشوارع
شوارع القدس العتيقة
قدام الدكاكين
اللي بقيت من فلسطين
حكينا سـوا الخبرية.. عطيوني مزهرية
قالو لي هيدي هدية من الناس الناطرين
في هذه الأغنية التي صورتها السيدة فيروز للتلفزيون اللبناني عام 1966، يتجاوز الرحابنة حالة الحنين الرومانسي الذي يمهد للنهوض الثوري، والذي عبروا عنه في مغناة 'راجعون' نحو رؤية تستشرف حالة الارتباك العربي في المواقف، والتحالفات والخيبات التي كانت تصنع مأساة وطن، كاد يتحول لدى بعضهم إلى بضعة دكاكين تباع وتشترى.. كما يشير المقطع: 'قدام الدكاكين اللي بقيت من فلسطين' في تعبير شعري عميق، رغم بساطته الظاهرية.
أغنية 'القدس العتيقة' تمثل برمتها معاينة لواقع هذه المدينة التي كانت تقف على حافة المأساة، معاينة تصور مشاعر الناس وأحزانهم، وتستعيد نبض الحياة التي ترفد نهر الألفة بين البشر والحجر لتصنع معنى الارتباط بالمكان، ومعنى الوطن في سيرورته التاريخية والإنسانية:
كان في أرض وكان في إيدين عم بتعمر
عم بتعمر تحت الشمس وتحت الريح
وصار في بيوت وصار في شبابيك عم بتزهر
صار في ولاد وبإيديهم في كتاب
ومن هذه الاستعادة الشعرية المكثفة للماضي، تعود بنا أغنية 'القدس العتيقة' للحديث عن مشاهدات الواقع بكل ما يحمله من نذر الخطر والضياع، وكل ما يكتنفه من ألفة مع مشاهدات ترصدها عين تدرك عمق المأساة خلف المشهد الساكن، والأبواب المغلقة.. لكن الأغنية لا تكتفي بالوصف المشهدي، رغم شاعريته الجلية.. بل هي تطلق صيحة ألم، وصفارة إنذار.. وهي ترى في الأغنية فعلاً تحريضياً، خليقاً بأن يوقظ الضمائر النائمة:
عم صرّخ بالشوارع
شوارع القدس العتيقة
خلي الغنيّة تطير عواصف وهدير
يا صوتي ضلك طاير زوبع بهالضماير
خبرهن عاللي صاير بلكي بيوعى الضمير
وهكذا يستشرف الرحابنة في أغنية 'القدس العتيقة' المأساة التي لمسوا علائمها على أرض الواقع، فيرسمون بذلك (بورتريه) للقدس ماضياً وحاضراً، حجراً وبشراً، ألفة وحياة..
ويعبرون في كل هذه التفاصيل عن زمنين، أحدهما يمضى في طريقه إلى الغياب.. والثاني يحمل لوعة الألم والانتظار والخوف من المجهول.. ولهذا فليس غريباً أن يكتسي لحن الأغنية طابعاً درامياً متوتراً وخصوصاً في مطلعه، الذي يؤكد المناخ العام للأغنية ككل.

زنابق لمزهرية فيروز: أغنية تلهم شاعراً!

وقد أثارت الأغنية 'القدس العتيقة' التي تغلغلت في الوجدان الفلسطيني والعربي، أثارت قريحة الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، فكتب في ديوانه 'دخان البراكين' قصيدة مهداة للسيدة فيروز بعنوان: 'زنابق لمزهرية فيروز' متخيلاً فيها حواراً على خلفية الأغنية المذكورة، يقول في مطلعها:
من أين يا صديقة
حملتِ المزهرية والنظرة الشقية؟!
- من القدس العتيقة.
ومن ترى رأيتِ
في عتمة القناطر
من شعبنا المهاجر
وما ترى سمعتِ؟!
وقد قام الفنان البحريني المتميز خالد الشيخ، بتحويل هذه القصيدة إلى دويتو غنائي عام 1989، لحنه وقام بغنائه بمشاركة الفنانة المغربية رجاء بلمليح، وقد أصدرها عام 1989، ضمن ألبومه الغنائي: (العب... العب) وفيها بلغ خالد الشيخ مستوى رفيعاً من صياغة الفكر الموسيقي لهذه القصية، عبر لحن أوركسترالي الطابع، يمس شغاف القلوب.

زهرة المدائن.. ملحمية الجغرافيا
والتاريخ والدين!

وبالعــودة إلى الفن الرحباني فقد قدم الرحابنة أغنيتهم الشهيرة 'زهرة المدائن' عقب سقوط مدينة القدس بيد الاحتلال الإسرائيلي بعد نكسة الخامس من حزيران.. والواقع فهذه الأغنية، ما تزال تتربع على عرش أغنيات القدس حتى بعد أكثر من أربعة عقود على صدورها.. ويروي منصور الرحباني عن أجواء تقديم 'زهرة المدائن' في مهرجانات الأرز، ورأي عبد الوهاب السلبي فيها فيقول:
(عام 1967 كنا نهيئ حفلة منوعات لمهرجانات الأرز، وكنا أنهينا قبل فترة تسجيل 'زهرة المدائن' طلب مني عاصي بنباهته المعتادة، أن أسمع عبد الوهاب زهرة المدائن، فقال بعدما سمعها: (ما فيهاش حاجة جديدة، فيها علم) ذهبنا إلى الأرز فاقتصرت أكثر البروفات على 'سكن الليل'. وليلة المهرجان غنت فيروز 'سكن الليل' و 'زهرة المدائن' فتجاوب الجمهور مع 'زهرة المدائن' بشكل واضح، ما حدا بالأصدقاء سعيد فريحة وسليم اللوزي وجورج جرداق أن ينتحوا بنا في الاستراحة ويلومونا على هذا 'الكمين' الذي نصبناه لعبد الوهاب، بوضع 'زهرة المدائن' و 'سكن الليل' في البرنامج نفسه. وعبثا حاولنا إقناعهم بأن الأولى موضوعة قبل الأخرى، وأن عبد الوهاب نفسه استمع إليها فلم يقتنعوا)
وبعيداً عن الحكم المتسرع لموسيقار الأجيال، وعن تلك الرؤية التي يلعب فيها التنافس المهني دوراً هاماً، فقد جاء الإبداع الرحباني في 'زهرة المدائن' تعبيراً فريداً عن تمازج العلم الموسيقي مع الموهبة الفذة التي تمتح من صدق الشعور تجاه الموضوع المطروق. جاء الإبداع الرحباني تأكيداً عن عمق الانتماء القومي والديني الذي تمثله هذه المدينة في نفوس العرب.. و الذي عبر عن نفسه من خلال الرؤية الشعرية التراجيدية المتضافرة العناصر والتي يسمو بها هذا العمل الغنائي الخالد.
تنطلق الأغنية من حالة خشوع وجداني وروحي، يمزج بين طقوس العبادة، التي تختزل المكانة الدينية للقدس، في التراثين المسيحي والإسلامي، وبين الرحيل الرمزي إلى المدينة عبر نظرات الحزن التي تستجلي مأساة السقوط في يد الاحتلال:
عيوننا إليك ترحل كل يوم تدور في أروقة المعابد
تعانق الكنائس القديمة وتمسح الحزن عن المساجد
يا ليلة الإسراء يا درب من مروا إلى الســـماء
عيوننا إليك ترحل كل يوم وإنني أصــــــلي
ثمة براعة لافتة في المزج بين الديني والوطني في (زهرة المدائن) وفي إضفاء صفة القداسة على الأمكنة والطبيعة وحتى على الاستعارات والتشابيه الشعرية (كوجه الله الغامر)، وهو أمر مقصود لتأكيد البعد الروحي لهذه المدينة، ولتعميق المفارقة بين القيم السامية التي تبشر بها الأديان السماوية، وبين قيم (القدم الهمجية) للاحتلال.
هذا التمازج، بين الوطني والديني، ثم التضاد بين قيم السماء، وهمجية الاحتلال، يكشف تلك البنية الجدلية والدرامية التي تجعل من هذا العمل الغنائي، عملاً ملحمياً في بنيته الداخلية، وفي سيرورة الطقوس والأحداث التاريخية التي يمر عليها، والحالات التي يعرض لها، ويؤكد ويدعو إليها:
الغضب الساطع آتٍ و أنا كلي إيمان
الغضب الساطع آتٍ سأمّر على الأحزان
من كل طريق آتٍ بجياد الرهبة آتٍ
وكوجه الله الغامر آتٍ آتٍ آتٍ
لن يقفل باب مدينتنا فأنا ذاهبة لأصلي
سأدق غلى الأبواب وسأفتحها الأبواب
وستغسل يا نهر الأردن وجهي بمياه قدسية
وستمحو يا نهر الأردن أثار القدم الهمجية
وفي حين تنعي الأغنية، قيم السلام والعدل والحب التي ترمز إليها القدس، والتي سقطت بسقوطها في قبضة الأسر، عبر نبرة وجدانية وتراجيدية يرسم اللحن تضاريسها ويعمق مناخها، فإن الإيمان بالمقاومة واسترداد الحقوق، سرعان ما يعلن عن نفسه، عبر انقلابٍ جذري في اللحن والبناء الموسيقي، ومن خلال رؤية تفجر عناصر الغضب، وتلهب الشعور الوطني والديني في نفس المستمع:
الغضب الساطع آتٍ بجياد الرهبة آتٍ
وسيهزم وجه القوة
البيت لنا والقدس لنا
وبأيدينا سنعيد بهاء القدس
بأيدينا للقدس سلام آتٍ
في (زهرة المدائن) تحضر الجغرافيا والتاريخ والسياسة، وتتآخى المعتقدات، مثلما تتآخى أمكنة العبادة في ملحمة تروي تعانق الأديان السماوية في مدينة السلام وتبشر حتى اليوم بالغضب الساطع الذي يأتي.

مفتاح القدس!

حققت (زهرة المدائن) حين صدورها بعد نكسة الخامس من حزيران تفاعلا كبيرا في الوجدان العربي، وتركت أثرا عميقا في نفوس أهل القدس خاصة، أضيف إلى رصيد الأغنيات السابقة التي قدمها الرحابنة والسيدة فيروز عن القدس فلسطين، ما حدا بأهالي مدينة القدس أن يمنحوا فيروز مفتاح مدينتهم عام 1968 في احتفال أقيم في نقابة محرري الصحافة في بيروت. حيث قام النائبان الأردنيان أميل الغوري ومحي الدين الحسيني بتسليم السيدة فيروز مفتاح القدس المصنوع من خشب الزيتون على صينية من صنع أهالي القدس رسمت عليها بالصدف صورة مصغرة لمدينتهم.
وقد ألقى منصور الرحباني في ذلك الاحتفال كلمة قال فيها:
(تكون المفاتيح من حديد، غير أن مفتاح المدينة المقدسة من خشب الزيتون، من خشب السلام، من جذوع صلى عليها خادم السلام وتفييأ ظلالها الأنبياء، ويا أيها السادة الذين تحملوا مشقة السفر باسم فيروز وعاصي ومنصور وكل من ساهم معنا أقول لكم شكراً. إن ما عملناه واجب هو، بل هو أقل من واجب، إن هو إلا شعور داخلي، شعور ينبع من هول المأساة التي زلزلتنا، ولو أن الغناء يكون صامتاً لكان الأجدر بنا أن نغني صامتين، لكنه صراخ الحق تفجّر غناء.)
أما السيدة فيروز فقد علقت بالقول: (تأثرت جداً بهذه الثقة والمحبة التي يكنها لنا أبناء مدينة القدس، علينا أن نقول دائماً القدس لنا، ولو استطعت أن انشد كل يوم أغنية لأبناء القدس، وأعمال الفدائيين لما تأخرت)

التفاؤل الذي يصنع الانتماء!

لا يستطيع الفن أن يتخلى عن غضبه النبيل في وجه الظلم، مهما أغلقت الأبواب في وجه هذا الغضب.. ولا أن يتخلى عن حلمه مهما اشتدت النوائب والكوارث، ولا يستطيع الفن الأصيل أن يتنازل عن تفاؤله الثوري باستعادة الحقوق، مهما غابت مبررات التفاؤل على أرض الواقع.
في (جسر العودة) يطلق الرحابنة على جسر نهر الأردن الذي سمي بجسر الأحزان، لكثرة ما عبر عليه من مئات آلاف اللاجئين، اسما يحمل المعنى الحقيقي لهذا التفاؤل:
جسر العودة.. جسر العودة..
يا جسر الأحزان أنا سميتك الجسر العودة.
وتحضر القدس كحلم يسطع في الوجدان، وأمنية لأطفال يأتون محملين بروح الثورة ومعنى الانتماء:
والمجدُ لأطفالٍ آتينô الليلةَ قد بلغوا العشرين
لهم الشمسُô لهم القدسُ
والنصرُ وساحات فلسطين.
هكذا آمن الفن الرحباني بحلم العودة، وأصر على زرع معاني التفاؤل، من منطق الانتماء العميق لقضية فلسطين، لا من موقع المتعاطف أو الشاهد عليها وحسب.. ولعل هذا التفاؤل هو الذي حفظ لكل شعوب الأرض، حقها في النضال حتى استعــــادة الحقوق بعيداً عن راهنية المواقف السياسية وتحالفـــاتها، وتبدلات الخطاب الرسمي ومتغيــراته.. وهو أمر لا يحتاج إلى شرح أو تذكير، حين يتعلق بالخطاب الرسمي العربي، الذي نأى الرحابنة بفنهــم عن الارتباط به، أو التعاطي مع طروحاته التكتيكية وشعاراته المرحلية، والانتهازية في أحيان كثيرة. ولهذا أيضا جاءت أغنيات السيدة فيروز والأخوين رحباني عن القدس وفلسطين والقضية المشتعلة فصولها حتى اليوم، نموذجا يحتذى في التعبير الوطني الصادق، الذي يرتقي بالصورة الفنية كلمةً ولحناً وغناءً إلى آفاق تتبدى فيها قوة التعبير وصدق المشاعر، والقدرة على صناعة ذاكرة فنية تثري الذاكرة الوطنية والقومية لقضية العرب الأولى، فتمتزج بها في العمق الشعبي حيناً، وتتقاطع معها في الذاكرة الثقافية حيناً آخر.

' صحافي من سورية

المراجع:
(فيروز والفن الرحباني) محمد منصور، ط1- دار كنعان- دمشق 2004
(الأخوين رحباني: طريق النحل) هنري زغيب، ط1- بيروت 2001
(في الموسيقى اللبنانية العربية والمسرح الغنائي الرحباني) نزار مروة- إعداد وتنسيق محمد دكروب، ط1، دار الفارابي - بيروت: 1998
(ديوان سميح القاسم) دار العودة، بيروت: 1987

qpt81
هشام العويني ) فلسطين - الصاحب الحقيقي لهذا العمل
الحقيقة كانت اغنية زهرة المدائن بحق زهرة الاغاني الوطنية التي قيلت في القدس فكل التحية لفيروز والرحابنة علي ه>ا العمل اكن كان لابد التنوية الفني الخالدللصانع الاول لهذا العمل وهو الشاعر المبدع نزار قباني فهو من الهم الملحن والمغني عبقرية اللحن وشكرا لكل من ساهم فية
yazan - تعليق
مالازالت القدس مغناة العرب ولازال الباب مفتوح للابداع طلما وجه القوة لم يهزم بعد... والى الان لم يتغنى احد في القدس كما ابدعه الرحبانية وفيروز...لقد تركوا لنا اشياء كثيرة....تركوا الصورة والمكان والحن وارغمونا على لعنة الضلم والاحتلال والفقر والجهل والطائفية واجبرونا على الحب والسلام والابداع والرفض الرحبانة كلمة.. ولحن... وغناء... هذه الاقانيم الثلاث قل من ابدعهاوعبر بها الى المستقبل لان المستقبل والفن لعبة المتحسيل الممكن .... الكثير من اغاني الثلاثي ومسرحهم المتوهج بالفكر والموسيقى والرؤية تتعتق يوم بعد يوم و حيث انناجمهور المسمتمعين الفقراء لآبداعهم وكل ابداع وتفوق... نحاول ان نسمع ونفهم ونستمتع لعل وعسى...ان تصبح كلماتهم ولحنهم ومسرحهم وفيروزهم ولبنانهم وعروبتهم ومصداقيتهم مهد حضارتنا القادمة ..ان كتب الله لنا حضارة وأنشئناه
رضا السيسى - مصر العربية . - تحية الى فيروز ......والفن المحترم .
تحية خاصة الى السيدة : فيروز والى كل من تعاونوا معها من اجل الفن الهادف الذى اثرى حياتنا بكل جميل فمن خلالها عرفنا القدس وبغداد ودمشق والاسكندرية .........باختصار عرفنا معنى العروبة والدين .......عرفنا الفن الراقى المحترم .
__________________
عايزنا نرجع زي زمان....قل للزمان ارجع يا زمان.

عودة الي الزمن الجميل. منير
رد مع اقتباس