رد: د. صالح المهدي
حديث صحفي نادر لصالح المهدي يذكر فيه حقائق مثيرة لاول مرة
((وأنت تستمع إلى صالح المهدي يروي ذكريات السنين الطويلة مع الموسيقى، تكتشف أن الرجل لا يهتم كثيرا بدقة الأحداث وضبط الوثائق. لأن ما يهمه هو أن تعيش معه بعض ما حصل عنده من أحاسيس لا تزال مفعمة حيوية وذكاء من مسيرة دامت أكثر من ستين سنة بلا انقطاع.. أنتج خلالها مئات التلاحين في كل الأنواع والأغراض وألف عشرات الكتب وأسس المهرجانات والعكاضيات...
مسيرة صالح المهدي الموسيقية يرويها كما يروي آخرون قصة مغامرة يمتزج فيها الواقعي بالخيالي والذاتي بالموضوعي ويتقدم فيها أحيانا الثانوي على الأساسي.
مغامرة بمواقعها الشهيرة وشخوصها العجيبة وتقلباتها المفاجئة. إنها رواية سحرية لحقبة رئيسية من تاريخ تونس يرويها فنان استثنائي ويقوم فيها في الوقت ذاته بدور البطل الأول.
قصة المغامرة تنطلق من أشهر عنوان الموسيقى التونسية هو المعهد الرشيدي للموسيقى التونسية أو باختصار «الرشيدية». والرشيدية عند صالح المهدي هي صور ووجوه ونوادر.. وإبداعات خالدة.
تنطلق قصة ميلاد الرشيدية ككل حكاية رائعة بمكيدة حاول تدبيرها بداية الثلاثينات من القرن الماضي مستشار الملك أحمد باي سليم الدزيري ضد الأستاذ مصطفى صفر رئيس الجمعية الناصرية التي كانت تعنى بالموسيقى النحاسية اثر خلاف بين الرجلين اللذين كانا يعدان من أعيان الحاضرة.
يقول صالح المهدي نابشا في ذكرياته «إن مستشار الملك استغل عاهة عند مصطفى صفر تتمثل في شلل بيده اليمنى تجعله دائما يركزها على عصا وعند ارتدائه لباس المناسبات يركزها على سيفه، فوشى به سليم الدزيري إلى أحمد باي قائلا انظر كيف يعمل على عدم احترامك بوضع يده على السيف بحضرتك وواصل المستشار كيده ضد رئيس الجمعية الناصرية من ذلك أنه عند نزول الباي إلى تونس تعترضه الجمعيات النحاسية فلا يقع استدعاء فرقة الناصرية قصدا ليقول المستشار للملك أنظر كيف أن الجمعية التي يترأسها أحد المقربين إليك تخلفت عن واجب الحضور والمساهمة باستقبالك بالحاضرة».
في هذه الظروف بدأ الأستاذ مصطفى صفر يفكر في البحث عن بعث نشاط يجنبه مكائد مستشار الملك. وقد صادف أن أشار البارون دير لونجاي Baron d›Erlanger السويسري ذي الاهتمام المعروف بالموسيقى التونسية على متعاونه ومستشاره عمر البكوش شقيق رئيس الوزراء آنذاك صلاح الدين البكوش ليطلب من إدارة المعارف تخصيص منحة 20 ألف فرنك لجلب الموسيقار الحلبي علي الدرويش لتدريس الموسيقى العربية في سنة 1930، وذلك بعد أن قامت هذه الادارة بجلب عدد هام من اسطوانات الموسيقى الكلاسيكية الغربية وتوزيعها على المدارس الثانوية لاسماع التلاميذ هذا النوع من الموسيقى.
في أثناء ذلك تكونت علاقة غرامية بين مدير المعارض M.Gau وامرأة تونسية يهودية زوجة أحد الأطباء المشهورين وحُوّل المبلغ الذي رُصد في السنة الموالية لإعادة جلب الشيخ علي الدرويش إلى منحة لهذه المرأة حتى تشكل «فرقة ممتازة» والسفر إلى فرنسا لتسجيل أغنيات من التراث التونسي، وقد تم ذلك وكانت الفرقة تضم في ما تضم الشيخ خميس الترنان والشيخ محمد غانم مع عناصر يهودية مشهورة على رأسهم عازف الكمنجة خيلو الصغير ومسعود حبيب عازف القانون.. وتم التسجيل وصدرت الاسطوانة فإذا به يستحق أن ينطبق عليها المثل التونسي «الدفينة حامية والميت فار» لأن صوت هذه المرأة غير مقبول في أي مدرسة من مدارس الغناء العربي، وأطلقت هذه المغنية على نفسها اسم «زمردة العلجية» وشكلت جمعية وهمية لقبول المنحة وتصرفت فيها ما شاءت وقام مدير ادارة المعارف بالاشارة الى الكتابة العامة للحكومة حتى ترسل منشورا الى القياد لحثهم على توصية جميع المقاهي والمؤسسات الثقافية بشراء هذه الاسطوانة وكان ذلك سنة 1934 اي بعد سنتين من صدورها ولم تُبع منها أي نسخة.
احتجاجا على هذه الحادثة المسيئة للموسيقى التونسية استقال الاستاذ مصطفى صفر من رئاسة الجمعية الناصرية ودعا الى عقد جلسة عامة بالجمعية الخلدونية ضمت عددا هاما من المثقفين والفنانين والمسؤولين لإحداث جمعية موسيقية استجابة لتوصية صدرت عن المؤتمر الاول للموسيقى العربية الذي انعقد بالقاهرة سنة 1932.
وتشكلت لجنة ادارة برئاسة المرحوم مصطفى صفر ولجنة أدبية برئاسة شيخ الأدباء محمد العربي كبادي ولجنة فنية برئاسة الشيخ محمد الأصرم الذي عوّض فيما بعد بالاستاذ محمد التريكي الذي تدخل خميس الترنان لجلبه لأنه يحسن الكتابة الموسيقية.
ومن أخبار بعث هذه الجمعية قيام بيرم التونسي بحملة ضد مصطفى صفر والمطربة شافية رشدي التي كانت الوحيدة التي استجابت للمشاركة في التأسيس، وتركزت الحملة على اسمي «دقنوس» و«دقنوسة» في جريدة الشباب مع كاريكاتور تشبه شخصيهما الى ان رد مصطفى صفر الفعل بواسطة صديق والده بشير صفر الذي كانت له مكانه خاصة في الحكومة الفرنسية ووقع طرد بيرم التونسي من الأيالة التونسية ولإبعاد كل شبهة عنه أعلن مصطفى صفر عن مناظرة لقبول مطربات أخريات الى جانب شافية وشاركت في هذه المناظرة مطربة تدعى «دليلة» وأخرى تدعى «جنات» وهي يهودية و3 مطربات أخريات منهن الفنانة زهرة فايزة وقد قام المهندس رشيد بن مصطفى (ولد وزير الثقافة الأسبق زكرياء بن مصطفى) بإلقاء دروس في العربية وفي الفقه الحانفي، واستفادت من هذه الدروس الزهرة فائزة التي تحولت بفضل ما تعلمته الى نجمة من نجوم المسرح التونسي.
وهكذا كان ميلاد الرشيدية «سنة 1934 لتكون منارة اشعاع للموسيقى التونسية بل والمغاربية».
|