عرض مشاركة واحدة
  #17  
قديم 18/12/2009, 22h29
الصورة الرمزية بشير عياد
بشير عياد بشير عياد غير متصل  
رحـمة الله عليه
رقم العضوية:58261
 
تاريخ التسجيل: août 2007
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 2,220
افتراضي رد: بشير عياد مصري حتي النخاع

مـالِـكُ بنُ الرَّيـْبِ،
ويائيَّتُـــهُ الفــــريدة


قبل أن تقرأ:
"هذه وقفةٌ مع يائيّةِ مالكِ بنِ الرّيبِ التميمي، وهي واحدة ٌمن أمهات ِالقصائدِ العربيةِ وأبدعِها ، تسجلُّ لنا موقفــًا نادرَ الحدوث ، وهو قيامُ شاعر برثاء نفسهِ عندما تيّقنَ من موتهِ بدار الغـُربة . هل لديك الصبرُ على القراءة ؟؟ لا أدري ، ولكنـّها وقفة ٌلابد منها مع قرائنا ، ربّما يكون ُمن بينكم من يحبُّ مثل هذا اللون من الكتابة " (بشير عيـَّاد )


****


عن مالكِ بنِ الرَّيب
هو مالِكُ بنُ الرَّيب المازني التميمي ، من شعراء الإسلام في أوائل العصر الأموي ، نشأ في بادية بني تميم عند البصرة ، يقولُ الشعر الرقيق الجيد العذب ، غير أنه كان لصًّا فاتكًا يضربُ في الصحراء على طريقةِ الفُتَّاكِ من العرب ، ينالُ الناسَ بالشرّ فيطلبه الولاةُ فيفر إلى حيث تحمله ساقاه على نهج الصعاليك وقاطعي الطريق في العصر القديم ، وذات " هروبٍ " فرَّ - مع رفاقه - إلى البحرين ثم إلى فارس ، وكان سعيد بن عثمان بن عفـَّان واليًا على خُراسانَ في ذلك الوقت ، و بلغه ما يشيعه مالك بن الرَّيب وأصحابه ، فلقيَ مالكًا ورآه من أجمل الناس وجهًا وأحسنهم ثيابا ، فأقنعهُ بالإقلاع عن هذه العادات الجاهلية التي طهّر الإسلامُ المجتمعَ منها ، و استصحبه وأجرى له خمسمائة درهم في كلّ شهر .
كان مالك يحملُ نفسًا تأبى عليه ما يقوم به من أعمال تنافي الدين الذي ارتضاه والذي كان الإيمان به يضيءُ ثنايا شِعْرِه ومعانيه ، و يبدو أن طموحه الدائم إلى المعالي-التي لم يستطع الوصول إليها- هو الذي دفعه إلى التمرد والثورة واستغلال قوته وشجاعته في قطع الطريق والأعمال اللصوصية ، و من جيد شعره الذي يجمع بين الإيمان والحكمة وعاطفة الأبوة ، ما قاله لابنته عندما همَّ بالذهاب في سفره الطويل فتعلَّقتْ بثوبه وبكت وقالت : " أخشى أن يطول سفرك أو يحول الموتُ بيننا فلا نلتقي " ، فبكى ،و أنشأ يقول :

وَلَقــد قلـتُ لابنتي وهْيَ تُلـوي
بـدخيل ِ الهُمومِ قَلبًـا كئيبَــا
وهْىَ تَذري من الدموِع على الخدَّ
يــنِ مــن لّوْعَةِ الفِراقِ غُـروبـا
حَذَرَ الحتْفِ أنْ يُصيبَ أبــاهــا
أو يُــلاقي في غيرِ أَهْـلٍ شَعُوبَـا
اسْكُتي ... قد حَزَزْتِ بالدمعِ قلبي
طالَ ما حَــزَّ دَمْعُكُنَّ القلوبَــا
فعَسَى اللهُ أنْ يـدافِـعَ عنّـي
رَيْبَ ما تَحْذَرينَ حتّى أؤوبَــا
ليسَ شيءٌ يشاؤهُ ذو المعــالي
بعزيزٍ عليهِ ، فادْعي المجُيبَــا
ودَعــي أن تُقَطّعي الآنَ قلبي
أو تُريني في رحلتي تعذيبَــا
أنــا في قبضةِ الإِلَـهِ إذا كنـتُ
بعيــدًا أو كُنْـتُ منكِ قريبَـا
كَمْ رَأَيْتِ امْرَأً أتى من بعيــدٍ
ومُقيمًا على الفراشِ أُصِيْبا ؟!
فــدعيني مــن نحيبِكِ إنّي
لاأ ُبالي - إذا اعتزمتُ - النّحيبَا

رقةٌ وبساطة وإيمان بالله الذى هو حسبه وكافيه وهو في قبضة الإله سواء في قربه من ذويه أو في بعده عنهم . هذا عن نشأته وبيئته ولمحاتٍ من حياته وشعره ، فماذا عن يائيتهِ الرائعةِ الخالدة؟!
مثلما اختلف الرواة في ذكرهم سبب ذهاب مالك بن الرَّيب إلى خُراسان ، فقد اختلفوا - كذلك – في ذكرهم سبب موته بالطريق عند قفوله منها ، فمنهم من يقول : إن علة قد ألمَّت به، و منهم من يقول قد لدغه عقرب ، ومنهم من يقول لدغتْه حيَّة .
ونحن - هنا – لا نتوقف أمام اختلافات الرواة سواء في الرحيل أو العودة ، نحن نقف أمام ناطحة سحاب شعرية ، شيّدها رجل رأى موته يزحف إليه من بُعد فأعدَّ لاستقباله ما يليق به أو " بهما معًا " :

أَلاَ لَيْتَ شِعْــرِي هَـلْ أبِيْتَنَّ ليلَـةً
بِجَنْبِ الغَضى أُزْجي القِلاَصَ النواجِيا ؟

يبدأ الشاعر بكائيته بالحنين إلى الوطن ، إلى ملاعب الصبا والشباب أيام كان يسوق النوق السريعة ويحثها بجوار شجر الغضى بالقرب من اليمن ، و الشاعر عندما يكتب قصيدة الرثاء فإنه يبكي فيها من رحلوا ويصف فجعيته فيهم ويذكر محاسنهم ومناقبهم ، لكن ابن الرّيب ترك لنا نموذجا فريدا لموقف الإنسان / الشاعر من الموت بعد أن تأكّد من حتمية وقوعه ، الشاعر - هنا - يقف في منتصف النقطة الوهمية التي تفصل بين إرادة الحياة وحتمية الموت ، مأساة طاحنة زلزلت وجدان الشاعر وأعطته آخر فرصة لآخر اقتناص في حياته ، ليترك لنا هذه الرائعة الفريدة كإيصال بعمره الذي " كان " يتمنى أن يعيشه ، إنها أقسى صور وداع الحياة عندما يذهب الواحد منّا ليودّع نفسه عند باب قبره ، تلك اللحظة الخاطفة التي تمرق كالرصاصة .. بقوة ... وبقسوة ... وفي خط مستقيم .. لحظة لا ينفع معها الندم ولا تُجدي الدموع :

أَلـمْ تَـرَني بِعْتُ الضلالةَ بالهُــدَى
وأصبحتُ في جيشِ ابنِ عفـَّانَ غـَازِيَا ؟؟

ولكن زفرات الندم المفعم بالحسرات والآلام والأسى .. تندلع بقسوة ومرارة عندما يقف وجهًا لوجهٍ مع " اللحظة الراهنة " ويقارن بين ما كان وما هو كائن :

فَلِلَّـهِ دَرِّي يَـوْمَ أَتْـرُكُ طَـائِعًـا
بَنِيَّ بأعلى الـرَّقْمَتَينِ ومـالِيَـا
وَدَرُّ الظِّبَــاءِ السـانحـاتِ عَشِيَّةً
يُخَبِّرْنَ أنَّي هالِكٌ مِــن ورائيَــا
وَدَرُّ كَبِيـريَّ اللذينِ كلاهمـــــا
عليَّ شفيقٌ ناصحٌ لو نَهــــانِيَــا
وَدَرُّ الهــوى من حيث يدعو صِحابَهُ
وَدَرُّ لَجـاجـاتي ، وَدَرُّ انتهـائِيَـــا

" لِلَّهِ دَرِّي " تركيبٌ يُقال في المدح والدعاء ، أي " ما أنا فيه من الخير ، إنمّا هو من الله " ، لكن الشاعر استخدمه هنا للتعجب من نفسه والتقريع لها ، فكيف يترك - طائعا - أولاده وماله بالرقمتين ( قريتين قرب البصرة ) ليذهب إلى خُراسان ويلقى حتفه غريبا لا أهل ولا وطن ؟! وينعي حظّه إذ لم يبادر أحد كبيريه لينصحه وينهاه ؟! ثم يعض أصابعه وشفتيه إذ قادته لجاجاته - مطامعه - إلى الهلاك والضياع بهذه الصورة الدرامية .

تَذَكَّرْتُ من يبكي عليَّ فلـم أجِـدْ
سوى السيفِ والرمحِ الرُّدَيْنِيِّ باكِيَـا
وأشقَرَ خنْـذِيـذٍ يجـرُّ عِنَـانَــهُ
إلى الماءِ لمْ يترك لهُ الدهرُ ساقِيَــا

غربةٌ موحشة ، لم يبحث الرجل عمّن يؤنسه فيها ، و لكنه - ويا لروعة الألم والأسى - يستجدي " من يبكي عليه " ويشيّعه إلى مثواة الأخير ولو بدمعتين فلم يجد سوى الجماد وغير العاقل : سيفه ورمحه الرُّدَينيّ ( منسوب إلى " رُدَيْنَة " وهي امرأةٌ كانت تقوِّم الرماح ) وفرسه الأشقر الخنذيذ ( أي الطويل الصلب ) الذي راح يجر عِنانه - لجامه - ليرد الماء بعد أن حرمه الدهر / الموت من فارسه الذي يعتني به :

ولكنْ بأطرافِ السُّمَيْنَةِ نِسْوَةٌ
عزيزٌ عليهنَّ العَشيَّةَ مابِيَـــا

يلمع طيف الوطن في ذاكرة الشاعر ووجدانه ، فيرى نسوة السُّمَينَة - موضع قرب اليمن - اللاتي يعزّ عليهنّ ما به وما هو فيه ، إنه بحاجة إلى من يشفق عليه ويواسيه ثم يبكيه - إذا حانت لحظة الموت / الفراق الحتمية ، فليس لمثله أن يُوارَى بمثل هذا " الصمت الرهيب " ، لكأنّ الشاعر الذي أسعدهن بأشعاره وبالتغزّل بهن ينتظر منهن ردَّ الجميل بكاءً ونحيبا ، إنه يوشك أن يطلب أن يكون غُسْلُه بالدموع ، و لكن هيهاتَ أيها الضائع سُدى :

ولمَّـا تَـراءتْ عِنْـدَ مَـرْوَ مَنِيَّتي
وَخَلَّ بها جِسْمي وحانتْ وفـاتِيَـا
أقـولُ لأصحابي : ارفعـوني لأنَّنِي
يَقَـرُّ لِعَينِي أنْ سُهَيلٌ بَـدَا لِيَـــا
فيا صاحِبَيْ رَحْلي ... دنا الموتُ فانزلا
برِابيَةٍ ، إنّي مُقيـمٌ ليـالِيَـــــا
أَقِيما عَلََيَّ اليـومَ أو بعضَ ليلــَــةٍ
ولا تعجـلاني ، قـد تَبَيَّنَ مـابِيَــا
وقُومَا إذا ما استُلَّ رُوحي وهَيِّئـــا
ليَ السِّدْرَ والأكفـــانَ ثمَّ ابكيـا لِيَـا
وخُطَّـا بأطـرافِ الأسنَّةِ مضجعي
ورُدَّا على عَيْنَيَّ فَضْـلَ رِدائِيَـا

عند " مرو " في طريق عودته ، اختل جسمه ورأى المنية تسعى إليه ، يلتمس من أصحابه أن يرفعوه ليرى سُهيلا - نجم يسطع من قِبَل بلاد اليمن - إنه آخر شيء سيراه ويرى فيه طيف الوطن ورائحته .
صاحبا مالك صاحبان حقيقيان وليسا خياليين كما عهدنا بشعراء العصر الجاهلي بوجه خاص ، لما أشرف مالك على الموت " تخلّف عليه مُرة الكاتب ورجلٌ آخر من قومه من بني تميم ، و مات فى منزله ذلك فدفناه هناك ... " ( الأغاني ) .
بعد أن يلتمس مالك بن الرّيب من صاحبيه أن يهيئا له السِّدْر - شجر النبق ، و المقصود هنا ورقه لأنه يغسل به الميت - ثم الكفن ، يلتفت ليذكر لنا بعضا من مناقبه ليحفرها بصمات خالدةً على جدار الزمن :

خُذَاني فَجُرَّاني بِبُردي إليكُمـــا
فقد كنتُ قبلَ اليومِ صعبًا قِيادِيَـا
وقد كُنتُ عَطَّافًا إذا الخيلُ أدبـــر
سريعًا إلى الهيجا ، إلى من دَعانِيَــا
وقد كنتُ محمودًا لدى الزادِ والقِــرى
وعن شتميَ ابنَ العمِّ والجارَ وانِيَـــــا
وقد كنتُ صبَّارا على القِرنِ في الوغى
ثقيلاً على الأعداءِ عَضْبًا لِسَانِيَــــــا

" خُذاني ، فَجُرَّاني بِبُرْدي إليكما " ... صورة تحرّض على البكاء وتستدعي الدموعَ من جذورِها في أعماقِ القلبِ وثنايا الرُّوحِ ، بالرَّغمِ من أنَّ الرجلَ بينَ يديِّ اللهِ منذُ مئاتِ السنين ، فما أصعبَ أن نرى رجلاً - أيَّ رجلٍ - وهو يتحوَّلُ في لحظةٍ إلى " شيءْ " ، مجرَّد شيء ، إن كلمة " جُرَّانى " تحرك قلبي من مكانه وتطلق في جسدي ارتعادةً مفاجئة كلما وقعت عيناي عليها وكأني أطالعها للمرة الأولى ، صاحباه لا يقويان على حمله إلى قبره فيستعطفهما أن يَجُرَّاه بِبُرده - أي يضعاه عليه وهو مفروش كالبساط ويجرّاه من طرفيه - كأنهما يجرّان حيوانا نافقا .... يااااااه!‍.
صورٌ تقطر أسى ، تدور وتلامس بعضها فتققس صورًا جديدة لتتحول إلى مزرعة ألم أبدية تتسع وتتمدد مع الأيّام .
يتحسَّر الشاعر على نفسه ويذكر أنه كان صعبَ القِياد والمراس ولكن الموت اصطاده وحوّله إلى عبءٍ ثقيل على صاحبيه اللذين آثرا أن يظلاَّ معه " حتى يقضيَ اللهُ أمرًا كانَ مفعولاً " فيذكر لهما كيف كان شجاعا ذا بأس يسرع إلى خوض المعارك لنجدة من يستغيث به و يستنصره ، و في مقابل سرعته إلى حومةِ الوغى كان صبورًا جدًّا على ابن العم والجار ... الأهل وذوو القربى والجيران لا نسارع في إيذائهم بل نصبر على تجاوزاتهم فهم غير الأعداء ، ثم يلوح قوله " وقد كنتُ صبَّارًا على القِرْنِ في الوغى " ليثبت أنه كان محترفا في القتال فكان ثابت القلب رابط الجأش يراوغ قِرنَه - مثيله من الأعداء - ويصبر عليه حتى يصطاده ويقضي عليه مهما تطل المراوغة ومهما تكن قوة العدو .
خمسة أبيات متتالية يعدد فيها مناقبه .. تبدو كقطعة واحدة معطوفة على قوله : " فقد كنتُ قبلَ اليومِ صعبًا قيادِيَا " تنتهي بقوله :

وطُورًا تراني في رَحَىً مُستدِيرةٍ
تخرّقُ أطرافُ الرماحِ ثيــابِيَـا

يعود بعدها ليصل الكلام - معطوفا على قوله : " خُذَاني .... " - فيقول :

وقُومــا على بِئرِ الشُّبَيْكِ فأَسْمِعَــا
بها الوحْشَ والبِيضَ الحِسَانَ الروانِيَا
بأنَّكمـا خلّفتُمـاني بقَفْــرَةٍ
تهيلُ عليَّ الرّيحُ فيها السوافِيَـــا

أخذت سكراتُ الموت مالك بن الرَّيب في دوَّاماتها ، و بين إغفاءة وإفاقة يشيّد بيتا من الشعر في يائيّته الخالدة ، وعندما يقترب من المنعطف الأخير في القصيدة / الحياة ، و يصبح القبر أقرب إليه من أنفاسه ، ينزف ما تبقـّى من روحه ألمًا وحسرة ، تاركا لنا رحيق روحه خيولا تسابق الزمن :

يقولونَ : لا تَبْعَدْ !! وهم يدفنونني
وأين مكانُ البعدِ إلا مكانِيَـا ؟!

" بَعِدَ ، من باب " فَرِحَ " ، و معناها : هَلَكَ ، و كان من عادة العرب أن يقولوا : لا تَبْعَدْ ، و هم يدفنون الميّت ، و هذا البيت أحد أعمدة القصيدة ، شطره الثاني - العُجُز - يصيبني بالرعب والهلع .. استفهام تعجبي مرير يلخص كل تراث الألم والتحسّر والبكاء على النفس ونعيها .
ومع زفراته المتقطعة يتذكّر السيدة والدته وكيف يكون وقع الخبر عليها وهل ستبكيه كما كان " سيبكيها " لو أنها فارقت الحياة قبله ؟ :

وَياليتَ شِعري هل بَكَتْ أُمُّ مالكٍ
كما كنتُ لو عالَوا نَعِيـَّكِ باكِيَا ؟!

ثم يلتفت إليها – أُمّه - موصيا إيّاها أن تزور قبره الذي كسته الريح بالغبار الذى يشبه القسطلان - غبار الحرب - المختلط بالتراب :

إذا مِتُّ فاعتادي القبـورَ فسلِّمي
على الرَّيْمِ أُسْقِيْتِ الغمامَ الغوادِيَا
ترَيَ جَدَثًا قد جَرَّتِ الريحُ فَوْقَهُ
غُبارًا كلونِ القسْطَلانيِّ هابِيَــا
رهينةَ أحجارٍ وتُـــرْبٍ تضمَّنَتْ
قرارَتُها منّي العظامَ البوالِيَـــا

وتدنو النهاية الأليمة ولا يبقى في ذهن الشاعر ووجدانه سوى طيف الوطن والحنين إليه ، و لا أدري سرّ إصرار هذا العبقري الرائع على استدعاء صور " النسوة " ليذرفن عليه دموعهن الساخنة السخية ، إلا أنه في نهاية القصيدة يخرج من التعميم إلى التخصيص عندما يذكر أمه وشقيقتيه وخالته والباكية الأخرى - زوجته - ثم يضع بصمة الختام ملخصا فيها علاقته بالرمل وأهله ليموت محبًّا محبوبا محمودًا :


أُقلِّبُ طَرْفي فوقَ رَحْلي فلا أرى
بهِ من عيونِ المؤنساتِ مُرَاعِيََـا
وبالرَّمْلِ مِنَّا نِسْوةٌ لـــــو شَهِدْنَني
بَكَيْنَ وَفَدَّيْنَ الطبيبَ المُدَاوِيَـــا
فَمِنْهُنَّ أمّي ، و ابنتاها ، و خالتي
وباكيةٌ أخرى تُهيجُ البَوَاكِيَـــا
ومـا كانَ عَهْدُ الرّملِ منّي وأهلِهِ
ذَمِيمًا ، و لا بالرّمْلِ ودّعتُ قالِيَا
ياه
يااااااه
ياه !!


ــــــــــــ
يــائِيـَّـــة ُ
مـالِكِ بنِ الرّيبِ التّمِيــمِي
( النصُّ كامِلا ،، ومعـــاني بعض الكلمات )

ــــ
( عن عدة مصادر ، أحدثها الطبعة الجديدة من " المنتخب من أدبِ العرب " ، سلسلة " الذخائر " ( 69 ) – الهيئة العامة لقصور الثقافة ( مصر ) – المجلد الثاني ص 76 وما بعدها ).
ــــــــــ
ألا ليتَ شعْـرِي هــل أَبيتَّن ليلـةً
بِجَنبِ الغضى أُزجي القِلاّصَ النـواجِيَا
فَليتَ الغَضَى لم يقطعِ الركْبُ عَرضَــهُ
وليتَ الغَضى ماشَى الركابَ لياليا
لقد كانَ في أهلِ الغَضَى لو دَنـا الغضَى
مُزارٌ ولكنَّ الغضَى ليَس دانيـا
ألم تَرِني بِعـتُ الضلالـةَ بِالهــــدى
وأصبحتُ في جيشِ ابنِ عَفَّانَ غازيـا ( 1 )
دعاني الهَوى من أهل أودَ وصُحَبِتــي
بِــذِي الطـَّبَسَيْنِ فالتفتُّ وَرائيـا ( 2 )
أجبتُ الهَــوى لما دَعاني بَزِفْــرَةٍ
تَقَنَّعُت مِنهـا أن ألامَ رِدَائيـا ( 3 )
لعمرِي لئن غَالـَتْ خُراسانُ هامَتِي
لقد كنتُ عن بَابيْ خُراسانَ نائيا ( 4 )
فللهِ دَرِّي يـومَ أتــرُكُ طائعــا
بَنِيَّ بأعلـَى الرَّقْمَتينِ ومَاليـا ( 5 )
ودرُّ الظباء ِ السانحاتِ عَشِيَّةً
يُخَبِّرنَ أني هالكٌ مَنْ وَرائيـا ( 6 )
ودَرُّ كَبِيَـريَّ الـَّلذَينِ كِلاهمـا
عَلّيَّ شَفِيقٌ نـاصحٌ لو نَهَانيا ( 7 )
ودَرُّ الهوى من حيثُ يدعـو صِحَابَه
ودَرُّ لجَاجاتي ودرُّ انتهائيا ( 8 )
تذكرتُ مَنْ يَبكي عَليّ فلــم أجِدْ
سِوى السَّيْفِ والرُّمْحِ الرُّدَيِنِّي باكيا ( 9 )
وأشقَــرَ خنْذِيذٍ يَجُـــرُّ عِنانــه
إلى الماء لـم يتركْ لـهُ الدهْرُ ساقيا ( 10 )
ولكْـن بأطـرافِ السُّمَيْنَة نِسـوةٌ
عزيـزٌ عليهِـنّ العَشيةَ مابِيـا ( 11 )
صريعٌ على أيدى الرجــال بقَفْــرةٍ
يُسَوُّونَ قبري حيثُ حُمَّ قَضـائيــا
ولمَّا تراءَتْ عنــد مِـرْوَ مَنِيَّتي
وخَلَّ بها جِسمِي وحانــتْ وفَاتيا ( 12 )
أقولُ لأصحابي : ارفَعُـوني لأَنّني
يقَرّ لعيني أن سُهَيـلٌ بـدا ليـا ( 13 )
فياصـاحِبَيْ رَحلي دنــا الموتُ فانزلا
بـرابيةٍ ؛ إني مقيـمٌ ليـــاليا
أقيمــا عليَّ اليــومَ أو بَعضَ ليلةٍ
ولا تـُعجِلاني ، قَـد تَبْيَنَ مابيـا
وقوما إذا ما اسْتُلَّ روحي وهيِّئـــــا
ليَ السِّدْرَ والأكفانَ ثم ابْكا ليا ( 14 )
وخُطَّـا بأطرافِ الأسنَّةِ مَضْجَعي
ورَدَّا على عَيْنَيّ فضْلَ ردائيـا
ولا تَحْسُداني – بارك َاللهُ فيكما –
من الأرضِ ذاتِ العَرْضِ أنُ توسِعا ليا
خُذانِي فُجرّاني ببُــرْدِي إليكمــا
فقد كنتُ قبلَ اليومِ صَعْبًا قِياديــا
وقد كنتُ عَطَّافًا إذا الخيلُ أدبــرت
سَريعًا إلى الهَيْجا إلى مَن دَعانيـا
وقد كنتُ محمودًا لَدى الزادِ والـْقِرَى
وعن شتميَ ابْنَ العمِّ والجارَ وانيـا
وقد كنتُ صبّارًا على الـْقِرْنِ في الوغى
ثقيلاً على الأعداءِ عَضْبًا لسانيا ( 15 )
وطورًا تراني في ظلال ومَجْمَــع ٍ
وطورًا تراني والعِتَاقُ ركابيــا ( 16 )
وطورًا ترانِي في رَحًى مستديــرة
تُخَرِّقُ أطرافُ الرماحِ ثيِابيا ( 17 )
وقُومَـــا على بِئرِ الشُّبَيْكِ فأسْمِعـا
بِها الوحشَ والبيضَ الحسانَ الَّروانيا ( 18 )
بأنَّكُمَـا خَلـَّفْتُماَنِي بِقَفْـرةٍ
تهيلُ عليّ الريحُ فيها السوافيا ( 19 )
ولا تنسيَـــا عهِــدي خَليلَيَّ إنني
تَقَطَّعُ أوصـالي وتبلـَى عظاميا ( 20 )
فلن يعدَمَ الوالـونَ بيتـًـا يُجِنُّنِي
ولن يعدَمَ الميراتُ مِنِّي المَواليا ( 21 )
يقولون : لا تَبْعَدْ ! وهم يدفــونني
وأين مكانُ البعـدِ إلا مكانيــا ( 22 )
غداةَ غٍد يالهَــفَ نفسي على غدٍ
إذا أدلجوا عني وخُلـِّفْتُ ثـاويـا ( 23 )
وأصبحَ مالي من طـَريفٍ وتالـدٍ
لغيري وكان المالُ بالأمسِ ماليا ( 24 )
فياليت شِعْرِي هل تَغيّرتِ الَّرحـى
رحى المُثلِ أو أضحتْ بفَلْجٍ كما هِيا ( 25 )
إذا القوم حَلـُّوها جميعًا وأنزلــوا
بها بَقَرًا حُمَّ العُيونِ سواجِيَــا ( 26 )
رعَيْنَ وقد كان الظلامُ يُجِنُّهـــا
يَسُفْنَ الخُزامَى نَوْرَها والأقاحيا ( 27 )
وهل تركَ العيسُ المراقيلُ بالضُّحا
تعاليهَا ، تعلو المتوَن القياقيا ( 28 )
إذا عُصَبُ الرُّكبـــانِ بين عُنَيْزَةٍ
وبَوْلاَنَ عاجوا المُبْقِياتِ المَهاديا ( 29 )
وياليتَ شِعري هل بَكتْ أمُّ مــالكٍ
كما كُنتُ لو عَالـَوا نَعِيَّكِ باكيا ( 30 )
إذا مِتُّ فاعتَادِي القبورَ فسلِّمــي
على الرَّيْمِ أسقيتِ الغماَم الغوِاديا ( 31 )
تَرَيْ جَدَثًا قد جَرَّت الريحُ فوقَـــه
غُبارًا كلونِ القَسْطَلاَنيِّ هابِيــا ( 32 )
رهينةَ أحجارٍ وتُرْبٍ تضمَّنــــت
قرارَتُها منّي العظامَ البواليــــا

* * * *
أقَلِّبُ طـَرْفي فوقَ رحلي فـــلا أرَى
بهِ من عيونِ المؤنساتِ مُــــراعيا
وبالرَّملِ مِنَّا نِسْوةٌ لو شَهِــدنَني
بَكَيْنَ وَفَدَّيْنَ الطبيبَ المداويـا
فمِنُهنَّ أمِّي وابنتاها وخالتــــي
وباكيةٌ أخرى تَهيجُ البواكيـــا ( 33 )
وما كانَ عهدُ الرَّمل ِ منِّي وأهلـِــه
ذميمًا ، ولا بالرَّملِ ودَّعْتُ قاليــــا
ــــ
معاني بعض الكلمات ،، وإشارات إضافية :
( 1 ) في جيش ابن عفان : هو سعيد بن عثمان بن عفان كان خرج معه لما ولي خراسان فلما كان ببعض الطريق أراد أن يلبس خفه فلدغته حية في داخله .
( 2 ) أود : موضع بالبادية . الطبسان : كورتان بخراسان ، أي دعاني الهوى وأنا في المكان ذي الطبسين .
( 3 ) أن ألام : أي مخافة أن ألام . وردائيا : مفعول تقنعت .
( 4 ) الهامة : الرأس .
( 5 ) لله دري : تركيب يقال في المدح والدعاء ، أي ما أنا فيه من الخير إنما هو من الله ، وأراد بهذا التركيب هنا التعجب من نفسه . والرقمتان : قريتان قرب البصرة .
( 6 ) إما أنه يقصد بالظباء النساء من أهله ، وأنهن كن يتشاء من من سفرته : وإما أنه يقصد الظباء الحقيقية وأنها وإن سنحت وجاءت من المياسر إلى الميامن وهو ما كانت تتيمن به العرب كانت خداعة في هذا وأنها في الحقيقة كانت نذير الشؤم والهلاك .
( 7 ) لونهانيا : لو للتمني . والضمير يعود للشفيق .
( 8 ) ودرلجاجاتي : يتهكم بأن مطامعه دفعته إلى الهلاك وأن الموت كان انتهاء مطامعه .
( 9 ) الرديني منسوب إلى ردينة ، وهي امرأة كانت تقوم الرماح ، أي لا أجد من يبكي عليّ في دار الغربة إلا سيفي ورمحي .
( 10 ) وأشقر : أي وفرس أشقر . خنذيذ : أي طويل صلب .
( 11 ) السمينة : موضع .
( 12 ) خل بها جسمي : اختل .
( 13 ) سهيل : نجم يكون في سمت بلاد اليمن .
( 14 ) السدر : شجر النبق . والمراد هنا ورقه لأنه يغسل به الميت .
( 15 ) القرن : المثيل في الحرب . والغضب : السيف القاطع .
( 16 ) يصف نفسه في السلم بأنه كان متمتعا بلذات العيش في ظلال نعيم ، وأنه كان صاحب رأي إذا التفت المجامع ، و يصف نفسه في الحرب بأن مكانه متون الخيل . والعتاق : جمع عتيق ، وهو الفرس الكريم .
( 17 ) أي في الحرب التي تدور رحاها .
( 18 ) الشبيك : موضع . والرواني : النواظر .
( 19 ) السوافي : جمع سافياء وهو الغبار .
( 20 ) الأوصال : المفاصل .
( 21 ) بيتا يجنني : قبرا يواريني . والموالي : الأقارب .
( 22 ) بعد يبعد من باب فرح هلك ، وكان من عادة العرب عند دفن الميت أن يقولوا لا تبعد .
( 23 ) غداة : الظرف متعلق بيقولون ، أدلجوا : ساروا ليلا . وثاو : مقيم .
( 24 ) الطريف : المال المكتسب . والتالد : المال الموروث .
( 25 ) رحى المثل بضم الميم . والمثل : موضع . وفلج : موضع .
( 26 ) حلوها : أي نزلوا بها . حم : جمع حماء وهي السوداء . والسواجي : جمع ساجية وهي العين الساكنة ، وهي صفة حسن والظاهر أنه يقصد بالبقر هنا النساء الحسان وما في البيت بعده ترشيح .
( 27 ) يجنها : يخفيها ، وساف يسوف : شم . والخزامى : نبت طيب الرائحة . والأقاحي : جمع أقحوان هو نبت زهرة أبيض مفلج .
( 28 ) العيس : الإبل . والمراقيل : جمع مرقال وهي للسريعة . والتعالي : الارتفاع في السير . والمتون : الجهات المرتفعة . والقياقي : جمع قيقاءة وهي الأرض الغليظة .
( 29 ) عنيزة : مكان في وادي بطن فلج . المبقيات : التي يبقى جريها بعد انقطاع جري غيرها وكلالها .
( 30 ) عالوا : رفعوا أي بلغوا . أي كما كنت باكيا عليك يا أم مالك لو بلغوني نعيك .
( 31 ) الريم : القبر . الغوادي : جمع غادية . السحابة الباكرة المطر .
( 32 ) القسطلاني : نسبة إلى القسطلان وهو غبار الحرب . هاب من هبا الغبار إذا سطع أو اختلط بالتراب .
( 33 ) يريد زوجته .
رد مع اقتباس